قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في (مفتاح دار السعادة) -بعد كلام سبق فيما يُعرِّف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته- قال بعد ذلك: والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأراضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها: من جبر كسير، واغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقاً لهيئته خاشعاً لعظمته عانياً لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر وما أبركه وأروحه، وأعظم ثمرته وربحه، وأجل منفعته وأحسن عاقبته، سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب.
انتهى كلامه رحمه الله].
سفر القلب: هو معرفته ووصوله إلى حقيقة العلم، والمعرفة تكون بالوحي الذي أوحاه الله جل وعلا، ويجب على العبد أن يهاجر إلى الله وإلى رسوله ويترك ما قد يعترضه من العوائق والمؤثرات التي تؤثر في سيره إلى الله جل وعلا، فإذا حصل عائق أو مؤثر فإنه قاطع يقطعه عن الله جل وعلا، والقواطع والعوائق كثيرة، والسفر لا يكون إلا بواسطة الوحي الذي أوحاه الله جل وعلا إلى رسوله.
والله جل وعلا غيب لا يُدرَك ولا يُعلَم، ولا أحد يطلع عليه ويشاهده، ولا له مثيل فيقاس عليه تعالى الله وتقدس، فتتوقف معرفته على وصفه نفسه، وقد تعرف جل وعلا إلى خلقه بأوصافه التي وصف نفسه بها في كتابه، وكذلك وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث ونحوه.
فسفر القلب يكون بهذه الواسطة، أي: أنه يعلم أن الله مستوٍ على عرشه، وأن الله عظيم وكبير لا مثيل ولا نظير له، ويعرف أن الله أنزل الوحي وهو على عرشه، والأوامر تنفذ إلى من يشاء من خلقه ورسله، وهو جل وعلا كل يوم في شأن: يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجيب دعوة، ويجبر كسيراً، ويرحم ضعيفاً، ويقصم جباراً، فليس معه جل وعلا متصرف في الخلق كله.
وأما ما في أيدي الخلق فهو أمر وهبه الله لهم، إذا شاء جل وعلا سلبه منهم، وسوف يسلب حياة الإنسان عن قرب؛ لأنها قصيرة ومحدودة، فيذهب ويترك كل ما خوله من هذه الدنيا ليس معه إلا خرقة ملفوف بها جسده، وقد يكون جسده ليس ملفوفاً بخرقة، ثم عن قرب يكون مرتعاً للدود تحت طباق الأرض، لا يستطيع جلب منفعة لنفسه ولا دفع مضرة عن نفسه، وإنما الأمور كلها بيد الله جل وعلا، وكل الخلق يرجعون إليه يوم القيامة، قد جعل لهم داراً للاختبار وللابتلاء، فهذه الدار جعلها الله جل وعلا ليختبرنا ويمتحننا، فهي دار امتحان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
فالله جل وعلا جعل ذلك غيباً حتى يتبين من يصدق ومن يعمل بالوحي الذي يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم ويوقن بذلك ممن لا يؤمن إلا بمحسوس، ويتبين من يعبد الله ممن يعبد غيره، ولهذا جعل للخلق دارين باقيتين أبد الآباد: الجنة والنار، الجنة لمن أطاع وامتثل الأمر وآمن بالله جل وعلا وصدق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واتبعه، والنار لمن كذب وأبى اتباع الوحي، فيجب أن يكون هذا أهم المهمات لدى قلب الإنسان، يتعرف عليه وينظر فيه دائماً، ويتفكر فيه، ولا يجوز أن ينساه.
ثم إن السفر الذي يجب على العبد أن يسافره هو السفر إلى الله بقلبه وبعمله وبعبادته، وأما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإلى سنته وإلى الوحي الذي جاء به ليجعله دليلاً له في عمله، وهذا أنفع ما يكون للإنسان، بل وإذا تركه الإنسان فهو الخاسر وهو الضال، وهو الذي يكون يوم القيامة من النادمين، نسأل الله العافية.