للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع النفاق وبيان أخطرها]

النفاق الأكبر خلاف النفاق الأصغر؛ لأن النفاق منه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر، فالنفاق الأصغر يكون في المسلمين وهو كثير جداً، ومثاله: الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر في المعاهدة، إذا كان الإنسان عنده شيء من ذلك فعنده نفاق، ولكن جميع هذه الخصال الخمس لا تجتمع إلا في منافق، تجتمع كلها في منافق نفاقاً أكبر.

أما النفاق الأكبر: فهو بغض الحق وكراهيته، كبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض بعضه، أو كأن يود ويفرح ألا ينتصر دين الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يظهر، أو يود أن دين الكفار يظهر وينتصر على الإسلام، فمن كان عنده واحدة من هذه الأمور فهو من المنافقين الذين يخبر الله جل وعلا عنهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وكان مع المسلمين.

وهذا النفاق يكون في القلوب، فهو من أعمال القلوب لا يظهر، ولهذا كان الصالحون المتقون يخافون أن يكون عندهم شيء من ذلك، حتى إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة بن اليمان الذي قيل له: أنت صاحب السر، يقول: أسألك بالله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً، يعني: لو سألني أحد أن أخبره أنه سماه أو ما سماه لما أعلمته.

وحذيفة رضي الله عنه أعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض أسماء المنافقين، وذلك عند رجوعه من غزوة تبوك، حين مر بعقبة في جبل، ومسلكها كان صعباً وضيقاً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني سالك هذا الطريق، أي: لا يذهب معه أحد، فانتهز بعض المنافقين الفرصة وقالوا: الآن نتمكن من قتله، فذهبوا وكمنوا في أثناء الطريق في وسط الجبل، يريدون أن ينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيسقط في هذا الجبل، فأمر حذيفة أن يقود ناقته، وأمر عماراً أن يسوق به وهو راكب، وفي أثناء الطريق في العقبة خرجوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيهم حذيفة وصار يضرب وجوه ركائبهم حتى نفروا وهربوا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عرفت القوم؟ قال: لا، القوم متلثمون، ولكني عرفت راحلة فلان وفلان، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائهم قال: فلان منافق، وفلان منافق، وفلان منافق، فعدد أسماءهم وقال له: لا تخبر أحداً).

والله جل وعلا أنزل في هذه الغزوة سورة التوبة، وفيها كثير من الآيات تبين أوصافهم، ولهذا يسميها الصحابة: الفاضحة؛ لأنها فضحتهم، يقولون: لم يزل الله جل وعلا يقول: ومنهم ومنهم حتى تبين بأوصافهم لهم كثيراً منهم، وعدم ذكرهم بأسمائهم سببه تأليف الناس؛ لأن هؤلاء كانوا من قبائل الأنصار، غير أنهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد تقوى الإيمان وعظم واعتز، فلم يجدوا بداً من المصانعة، وقلوبهم منطوية على التكذيب.

وبعض العلماء يقول: إنهم انتهوا في الأخير؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:٦٠]، فالله جل وعلا لم يغره بهم، فدل على أنهم انتهوا عن أفعالهم في آخر الأمر، وبقي قليل منهم، ولكن الأوصاف التي ذكرها الله جل وعلا فيهم كثيرة، وهي تبينهم في كل وقت، وقد ذكرها في سورة التوبة وكذلك في سورة المنافقون، وقد ذكر من أوصافهم أشياء عجيبة، بحيث أنه ذكر أنهم لهم أجسام، ولهم مناظر حسنة، ولهم فصاحة وبلاغة في كلامهم وخطابهم؛ لأنه جل وعلا يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:٤] تعجبك أجسامهم: في مناظرهم وملابسهم، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:٤] يعني: لفصاحتهم وبلاغتهم، ويقول: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:٧٩]، ويقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:٤٩].

والمقصود: أن تسمية حذيفة: صاحب السر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسر إليه بعض أسماء المنافقين وليس كلهم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه إذا مات الرجل ينظر إلى حذيفة هل يصلي عليه أو لا؟ فإن صلى عليه صلى عليه.

وكون الصحابة رضوان الله عليهم يخافون من النفاق؛ لأن القلب قد يعمل أعمالاً يخشى أن يكون خالف فيها الحق، أو كره الحق فيها، فيخشى أن يكون منافقاً، ولهذا كان الحسن البصري رحمه الله يقول: والله ما خافه إلا مؤمن -يعني: ما خاف النفاق إلا مؤمن- ولا أمنه إلا منافق.

يعني: الذي يأمن النفاق على نفسه يكون منافقاً، أما الذي يخاف أن يكون منافقاً فهو المؤمن.

ومن ذلك قول ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه أن يكون منافقاً.

ومن النفاق أن تحب إنساناً على شيء من الباطل فهذا نفاق، أو تكره إنساناً على شيء من الحق فهذا نفاق.

فالنفاق فيه كبير وفيه صغير، فيه مكفر وفيه مفسق، فيه ما يكون كفراً وخروجاً من الدين، وفيه ما يكون فسقاً وكبيرة من كبائر الذنوب.