للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بعض العرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم]

العرب ينقسمون إلى قسمين: قسم يعود إلى يعرب بن يشجب الذي ينتهي نسبه إلى هود عليه السلام، وهؤلاء هم الذين يسمون العرب العاربة.

وقسم آخر ينتهي نسبهم إلى إسماعيل بن إبراهيم، وهو أكبر ولده، وهو ابن جاريته التي وهبتها له زوجه سارة، واسمها هاجر، وقد وهبها لها الطاغية الذي أمر أن تدخل عليه لما قيل له: إن رجلاً دخل بلادك معه امرأة ما تصلح إلا أن تكون لك لجمالها، فأخذ إبراهيم وقال: من هذه التي معك؟ فقال: هي أختي، وعلم أنه إذا قال: هي أختي لا يتسلط عليها، لسبب لا ندري ما هو، ولو قال: إنها زوجتي لأخذها، فقال: إنها أختي، وهذه إحدى الكذبات التي يعتذر بها إبراهيم عليه السلام حين تطلب منه الشفاعة، فقال لها بعد ما رجع من عند هذا الطاغية: إنه سألني عنك، وقلت: إنك أختي، فلا تكذبيني، فإنك أختي في الإسلام، فليس اليوم مسلم غيري وغيرك.

فذهبت إليه فسألها فقالت: أنا أخته، ومع ذلك مد يده إليها، فأمُسكت يده مسكة شديدة، وكان إبراهيم يصلي ويدعو ربه ألا يسلط هذا الظالم على زوجته، فلما أمسكت يده عرف أنه بسبب ذلك، فقال لها: ادع الله أن يفك يدي ولا أنالك بأذى، فدعت الله جل وعلا ففكت يده، ثم رجع مرة ثانية ليتناولها، فأمسكت أشد من الأولى حتى صار يركض برجله الأرض من شدة ما أصابه، فقالت: اللهم إن يمت يقولون: قتلته، فدعت ألا يموت من هذا الشيء، ثم انتبه وقال: ادع الله أن يفك يدي ولا أنالك بأذى، فدعت الله جل وعلا ففك يده، فأراد مرة ثالثة فأصابه أشد من تلك، ثم بعد ذلك قال: ادع الله أن يفكني ولن أنالك بشيء، فدعت الله فدعا قومه، وقال: أخرجوها عني فإنكم جئتوني بشيطان، لم تأتوني بآدمي، وأمر أن تخدم بجارية.

ثم بعد ذلك وهبت سارة هذه الجارية لإبراهيم، وقد أعلمنا الله جل وعلا أنه بلغه الكبر ولم يولد له مولود، ثم جاءته الملائكة تبشره بغلام، ثم إن هذه الجارية حملت، فلما ولدت غارت عليها سارة زوجته، كيف تحمل وهي لم تحمل؟! فأمره الله جل وعلا أن يهاجر بها إلى مكة مع ولدها وهو صغير يرضع، فذهب بها ووضعها عند مكان البيت، ولم يكن هناك بيت؛ لأنه هو الذي بناه هو وهذا الغلام، ثم ولى راجعاً إلى الشام، ووضعها في ذلك المكان الخالي القفر، الذي ليس فيه ماء ولا أنيس ولا حسيس، ثم ولى راجعاً، وكان معها قليل من الماء وقليل من الطعام، فلما ولى راجعاً صارت تناديه: يا إبراهيم! إلى من تتركنا؟ ولا يجيبها بشيء، ولا يلتفت إليها، ولما رأت ذلك قالت له: آلله أمرك؟ فقال: نعم، عند ذلك وقفت ورجعت، وقالت: إذن لن يضيعنا الله جل وعلا.

ورجعت إلى ابنها، وصارت ترضعه حتى نفد الماء، وانتهى الطعام، فنشف ضرعها، فجاع الصبي وظمأ ثم أدركه الموت، فكرهت أن تجلس تنظر إليه وهو يموت، فنظرت فإذا أقرب مرتفع إليها هو الصفا، فذهبت وصعدت تتطلع لعلها ترى أحداً، فلما لم تر أحداً نزلت متجهة إلى المروة تبحث لعلها ترى أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، وفي السابعة سمعت صوتاً فقالت لنفسها: صه؛ لأنها سمعته ولم تتأكد، ثم سمعته مرة أخرى فقالت: لقد أسمعت إن كان عندك غوث فأغث، فنظرت فإذا برجل واقف عند إسماعيل ابنها، فذهبت إليه فإذا هو جبريل عليه السلام، فحفر الأرض بطرف جناحه فنبع الماء من زمزم فصارت تحجر على الماء حتى لا يذهب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً) يعني: لصارت عيناً كثيرة الماء تسير، وصارت تشرب منها وترضع ابنها.

ثم جاء قوم من اليمن من جرهم، ونزلوا في أسفل الوادي، فرأوا الطير تحوم على الماء، وقالوا: عهدنا بهذا الوادي وليس فيه ماء، والطير لا بد أنها تحوم على ماء، فأرسوا واردهم يختبر لهم ذلك، فوجد الماء ووجد المرأة عنده، فاستأذنها بأن يأتوا إلى الماء، وأصابوا منها أنها تحب الأنيس، فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم فيه، يعني: تشربوا منه وليس لكم حق في أصله، فرضوا بذلك.

فكبر الصبي، وتعلم العربية منهم، ثم تزوج منهم، وكان إبراهيم يأتي كل فترة يبحث ويطالع ابنه، وماتت أم إسماعيل، وتزوج إسماعيل، فجاء مرة ولم يجده، فسأل زوجته: أين بعلك؟ فقالت: ذهب يطلب لنا الطعام، فقال: ما حالكم؟ قالت: نحن في شر، ما عندنا طعام، ولا عندنا كذا وكذا، فقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له: غير عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل كأنه أحس فقال: هل أتاكم أحد؟ قالت زوجته: نعم جاءنا شيخ صفته كذا وكذا، قال: هل أوصاكم بشيء؟ قالت: نعم، يقرؤك السلام، ويقول لك: غير عتبة بابك، فقال: أنت عتبة بابي، وذاك والدي، اذهبي إلى أهلك، ثم تزوج أخرى، فجاء إبراهيم مرة أخرى ولم يجده، ووجد الزوجة، فسألها عن حالتهم فقالت: نحن بخير، فقال: ما طعامكم؟ فقالت: اللحم، قال: وما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، ويقولون: إن الإنسان لا يعيش على الشيئين إلا في مكة بدعوة إبراهيم عليه السلام، فقال لها: إذا جاء بعلك فاقرئيه السلام، وقولي له: أمسك عتبة بابك، فلما جاء أحس فسأل: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، شيخ صفته كذا وكذا، فقال: هل أوصاكم بشيء؟ فقالت: نعم.

يقرؤك السلام ويقول لك: أمسك عتبة بابك، فقال: ذاك أبي وأنت عتبة بابي، ثم جاء مرة أخرى فوجده تحت شجرة يبري له نبلاً، فاعتنقه وصنع معه ما يصنع الوالد مع ولده إذا لقيه بعد غيبة، ثم قال له: إن الله أمرني أن أبني هنا بيتاً، فهل أنت مساعدي؟ قال: نعم، فبدأ ببناء البيت، كما قال الله جل وعلا: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:١٢٧ - ١٢٨] إلى آخر القصة.

أما قضية الذبح فإنها كانت قبل هذا، وكانت بمكة، وسارة لم تأت إلى مكة، كان مقرها الشام؛ ولهذا كان القول بأن الذبيح إسحاق قول باطل بعيد عن الصواب، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرن الكبش الذي فدي به إسماعيل موجود في الكعبة معلق فيها، وهذا شيء يعرفه المؤرخون.