للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجمع بين علو الله عز وجل ومعيته لخلقه]

[المسألة التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين].

المقصود بهذا الحديث ذكر علو الله جل وعلا، وعلو الله جل وعلا ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها عباده، فكل إنسان يريد أن يسأل ربه يجد دافعاً من نفسه يدفعه أن يسأل ربه من فوقه ويمد يده إليه، فيمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب! يا رب! وهذا أمر لا يتخلص منه أحد، حتى الكفار إذا وقعوا في الضرورة يجدون هذا في نفوسهم، فهو أمر مقطوع به، ولهذا يقول العلماء: إن صفة الله بالعلو صفة ذاتية، أي: أنها ملازمة لله دائماً وأبداً، وما جاء في ذكر معية الله جل وعلا لخلقه، أو للمؤمنين، أو لأوليائه، كقوله جل وعلا لموسى وأخيه هارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، وكقوله جل وعلا في قصة سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم مع صديقه ورفيقه في الغار: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] يعني: معنا دون الكفار الذين يحيطون بالغار.

وكذلك قوله جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:١٢٨]، مثل المعية مع المؤمنين الأتقياء والأولياء والأنبياء فهذه تسمى معيّة خاصة، وهي تقتضي النصر والتأييد والحفظ، أي: النصر على الأعداء، وتأييدهم، وحفظهم، وحمايتهم مما يريد العدو بهم، فهذا مقتضاها، ومعناها أن الله محيط بهم يراهم ويسمعهم ويحفظهم، فهم في تقلباتهم في قبضته.

وأما المعنى الثاني الذي جاءت المعية به فهي معية عامة، كقوله جل وعلا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤] في آيات متعددة، فهذه المعية لا تنافي علو الله، وذلك أن الله أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، فهو فوق عرشه يسمع كلام عباده، ويرى تصرفاتهم، وهم في قبضته.

والمعية في اللغة العربية تأتي بمعنى المصاحبة، والمصاحبة تكون بحسب ما أضيفت إليه، فإذا قال القائل: سرت مع القمر صح الكلام، وقد جاء هذا عن العرب، يقولون: سرنا مع القمر.

فالقمر في السماء وهم في الأرض، وهذا الكلام يكون صحيحاً، فيجوز للإنسان أن يقول: مالي معي.

وإن كان ماله في بلد وهو في بلد، ويجوز أن يقول: زوجي معي وإن كانت في بلد وهو في بلد.

وكذلك قول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:٢٩] يعني: المصاحبين له.

وليست المعية هنا المخالطة والممازجة كما يتوهمه من ضل في دينه وعقله.

فتراه يقول: إن المعية معناها المخالطة.

ويقول: إن هذه الآية التي فيها ذكر المعية تنافي العلو.

وهي في الواقع لا تنافي علو الله، بل المعية معناها المصاحبة، وهي إما أن تقتضي التخويف والاطلاع والعلم، أو تقتضي الحفظ والكلاءة والنصر والتأييد، فإذا كانت خاصة اقتضت الحفظ والنصر والتأييد، وإذا كانت عامة اقتضت التخويف والاطلاع والعلم.

ولهذا السلف يفسرون المعية بالعلم، فقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:٤] يعني: بعلمه.

وهذا جزء من معناه، وليس كل معناه.

ثم كذلك ما ذكر في النصوص الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وذلك في كل ليلة، فإذا بقي ثلث الليل الآخر نزل إلى سماء الدنيا فقال -ينادي عباده-: (هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، وهذا كل ليلة.

فهذا لا يقتضي أن نزول الله جل وعلا إلى السماء الدنيا تكون معه السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي والبحر فوقه، كلا! بل هو ينزل وهو على عرشه فوق جميع مخلوقات؛ لأن المخلوقات كلها بالنسبة إليه صغيرة حقيرة، ولا يجوز أن يتوهم متوهم أن السماء تقل الله أو تظله تعالى وتقدس، فهو أكبر وأعظم من ذلك.

وكذلك أخبر الله جل وعلا عنه في كتابه بقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:٢٢]، وهذا يوم القيامة إذا جاء للفصل بين عباده، وكذلك قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:٢١٠]، فيوم القيامة يأتي إلى الأرض ليفصل بين خلقه، فيأتي وهو على عرشه أعلى من كل شيء وفوق كل شيء، فعلوه ثابت له ثبوتاً ذاتياً لا ينفك عنه جل وعلا، وهذا معنى قول السلف: إن علو الله صفة ذاتية؛ لأن صفة الذات معناها الصفات التي تكون ملازمة لا يمكن أن يخلو الرب جل وعلا منها في وقت من الأوقات، بخلاف صفة الأفعال، فإن صفات الأفعال يفعلها في وقت دون آخر، وكذلك قوله جل وعلا.

فهو الحامل لخلقه وللعرش ولحملة العرش وللسماء التي تراها مرفوعة بلا عمد، كل ذلك بقدرته، ولكن لحكمته جعل هذه الأشياء حتى يبتلي عباده ليؤمن من يؤمن، ويأبى الإيمان بذلك من يأباه، فالمؤمن يستحق الإثابة والكرامة، ومن يأبون ذلك الله يحكم فيهم بما يستحقون، وكل الخلق عباد الله وفي ملكه يتصرف بهم كيف يشاء، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦] تعالى وتقدس.

ثم إن العلو الثابت لله أقسام ثلاثة: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر.

كلها ثابتة لله جل وعلا، ولا يجوز أن نثبت واحداً دون البقية، والمخالفون يجعلون العلو علو قدر، وعلو القدر معناه: تقديره وتعظيمه في قلوب عباده.

فهذا علو القدر، ويجعلونه كذلك علو قهر، أي أنه هو الذي يحكم ويتصرف في خلقه، أما علو الذات فينكرونه ويأبون قبوله.

وشبهتهم -ما سبق أن ذكرناه- أنهم يقولون: هذا إذا أثبتناه دل على التشبيه؛ لأنه يعني أن الله في مكان، والله جل وعلا -كما يقولون- لا تحويه الأمكنة، ولا تحصره، ولا يكون في جهة، ومعلوم أن الذي لا يكون كذلك يكون عدم، ولهذا يصفون الله جل وعلا في كتبهم فيقولون: إن الله ليس في فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا هو في داخل العالم ولا في خارج العالم.

إذاً أين يكون؟ فلن يكون هذا إلا العدم.

وإذا قيل لهم: إنكم تذكرون عدما.

ً قالوا: الله في كل مكان، أي: حتى في بطونكم تعالى الله وتقدس، فكونه في كل مكان هذا كفر بالله جل وعلا وإلحاد؛ لأنه لا يجوز أن يكون في الأمكنة النجسة والأمكنة السفلى الخبيثة -تعالى الله وتقدس-، وإذا كان الأمر هكذا يقال لهم: أخبرونا! لما خلق الله جل وعلا السماء والأرض أين كان ربنا؟ فهل كان فيهما وخلق السماء والأرض في ذاته جل وعلا؟ فمن قال هذا فقد كفر، فلابد أن يقال: إنه خلقها خارج ذاته، فإذا كان خلقها خارج ذاته فلابد أن يكون فوقها وعالياً عليها، وهذا عند المجادلة بالعقل فقط، ولكن لا نحتاج إلى هذا؛ لأن كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم أغنيانا عن ذلك، فيجب أن نتبع ذلك ونؤمن به، ونتعرف على ربنا بما عرفنا به نفسه تعالى وتقدس، فيجب أن نعرف الله في ذاته، والله جل وعلا يهدي من يشاء إلى الحق ويضل من يشاء، وله الحكم، وهو الذي يفصل بين خلقه تعالى وتقدس.