للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تمني الشهداء العودة إلى الدنيا]

ثم إنه قد علم أن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث معاذ بن جبل لما قال: (ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، وذروة سنام الشيء: أعلاه.

وليس هناك ميت من المؤمنين المتقين يموت ويفارق الدنيا ويرى ما أعد الله جل وعلا له من الفضل والسعادة والخير، فيتمنى العودة إلى الدنيا إلا الشهيد، لما يرى من فضل ما أعد الله له، فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى! وقد جاء في الصحيح في قصة عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله: (لما قتل في أحد، يقول جابر: جيء به -يعني: والده- وهو ميت، يقول: فصرت أبكي، فينهاني الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، ثم بعد ذلك قال له: إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً، فقال له: يا عبدي تمن، فقال: أتمنى أن تعيدني إلى الحياة مرة أخرى فأقتل في سبيلك، قال الله جل وعلا: إني كتبت: ألا يعودوا إليها مرة أخرى).

وهكذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل في سبيل الله)، وهذا الذي يوده الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلى ما يمكن أن يطلب في مرضاة الله جل وعلا، والآثار والأحاديث في هذا واضحة وجلية وظاهرة.

وكذلك نوه الله جل وعلا به في كتابه، فإنه أخبر أنه: {اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:١١١] ثم يقول بعد هذا: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ} [التوبة:١١١]، هل يوجد أحد أوفى من الله جل وعلا؟! ثم يقول: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:١١١]، فهذا عقد مبايعة؛ لأن الإنسان المؤمن يبذل نفسه وماله في سبيل الله، وهذه المبايعة وجدت في أفضل كتب الله التي أنزلها: التوراة والإنجيل والقرآن، وعقد المبايعة وقع على يدي رسل الله جل وعلا جبريل ومحمد وموسى وعيسى، فأكد هذا وبينه كأنه حاصل وموجود؛ لأنه موثوق به تمام الثقة.

وجاء أيضاً في الحديث الصحيح: (أن الصحابة تذاكروا فيما بينهم: أي الأعمال أفضل؟ فانتهى الأمر إلى أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا في ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:١٠ - ١١]) إلى آخر الآيات، فهذا فصل للنزاع،

و

الجواب

أن هذا هو أفضل الأعمال.

ولهذا أملى الفضيل بن عياض على الذي جاءه بكتاب أخيه عبد الله بن المبارك بعدما قال إنه نصح جزاه الله خيراً؛ لأنه في هذه الأبيات يحضه على العمل الفاضل، وهو الجهاد في سبيل الله، ويقول: إن هذا لا يستوي مع عبادتك، وإن كنت تبكي وتسيل الدموع على خديك من خشية الله جل وعلا، فغبار في سبيل الله أفضل من هذا، فلهذا قال: نصحني جزاه الله خيراً، ثم أملى عليه الحديث الذي رواه، وفيه: أن المجاهد في سبيل الله لا يعدل فضله عمل من الأعمال، وأنه سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن عمل يعدل الجهاد في سبيل؟ فقال: لا أجده، والشيء الذي لا يجده الرسول صلى الله عليه وسلم لا وجود له، ثم قال له: هل تستطيع أن تصوم النهار ولا تفطر -يعني: جميع حياتك- وتقوم الليل ولا تنام -يعني: صلاة التهجد طوال حياتك- قال: لا يستطيع ذلك أحد، قال: إن المجاهد في سبيل الله كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر.

ثم ذكر أنه تكتب له الأعمال التي لا يعملها هو، إذا ربط فرسه بحبل طوله، الطول: هو الحبل الذي يوضع في يد الفرس، ويطول له حتى إنه يمتد فيرعى من حول مربطه الذي يوضع فيه الحبل، هذا يسمى طول الفرس، وإذا مشى فيه فإنه يكتب له حسنات، وإذا أكل يكتب له حسنات، وإذا بال يكتب له حسنات، وإذا راث يكتب له حسنات، يكتب ذلك للمجاهد الذي أمسك هذا الفرس في سبيل الله، وكذلك لو رجع ووضعه في بيته فإنه تكتب له الأجور دائماً ما دام أعده للجهاد في سبيل الله، فتكتب له خطواته وما يأكله وما يخلفه.

كذلك الشيء الذي يعده مثل العدة التي يعدها، فقد جاء: أن السهم يدخل فيه الجنة ثلاثة: صانعه ومعده محتسباً ذلك في سبيل الله ولجهاد أعداء الله، والذي يناوله من يرمي به، والرامي به، ثلاثة يدخلون الجنة بسهم، فكيف الذي يراق دمه ويكون مقبلاً غير مدبر؟! ومن الخصائص التي يختص بها الشهيد في سبيل الله أنه لا يجد ألماً للموت إلا مثل عضة القراد الذي يكون في الدابة، وأنه يأمن من فتنة القبر، وأنه يزوج سبعين من الحور العين، وغير ذلك مما ذكر في الأحاديث، ويكفي في هذا ما قاله الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:١٦٩].