للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من دلائل النبوة في حديث متابعة الأمة غيرها من الأمم]

قال الشارح: [قوله: (سنن) بفتح المهملة، أي: طريق من كان قبلكم قال المهلب: الفتح أولى.

قوله: (حذو القذة بالقذة) بنصب حذو على المصدر.

والقذة -بضم القاف- واحدة القذذ، وهو ريش السهم، أي: لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه، وتشبهوهم في ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى، فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة، وقد وقع كما أخبر، وهو علم من أعلام النبوة].

أعلام النبوة كثيرة جداً، وأعلام النبوة يعني: دلائلها، أي: الدلائل التي تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، ومنها إخباره بالمغيبات أنها ستأتي، فتأتي كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، وهذا لا يمكن أن يكون إلا عن وحي من الله جل وعلا.

قال الشارح: [قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) وفي حديث آخر: (حتى لو كان فيهم من يأتي أمة علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك)، أراد صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تدع شيئاً مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله، لا تترك منه شيئاً، ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.

انتهى] قد يقول قائل: هذا ليس صحيحاً؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وهذه الأمة ليس فيها من يقول هذا، ولا يقول ذلك، فكيف تقول: إن هذا الحديث يدل على أن كل ما وقع من اليهود والنصارى سيقع من هذه الأمة، فيقال: ليس شرطاً أن هذه الأمة تفعل ما فعلته اليهود والنصارى بألفاظه وصورته تماماً، يكفي أن يفعلوه في المعنى، وأن يوافقوه في المعنى، وقد وقعت الموافقة من كثير من الناس في هذا، فصاروا مثلاً يعتقدون أن الولي الفلاني يتصرف بالكون، وأنه يقول للشيء: كن فيكون، وأنه لا يدخل هذا البلد شيء إلا بإذنه وهو ميت مدفون، قد أكله الدود وارتهن بعمله، وربما يكون معذباً؛ لأن كثيراً ممن يدعى أنه ولي هو زنديق كافر بالله جل وعلا، لا يصلي ولا يتطهر، ولا يترك فعل الفواحش من الزنا وغيرها، ومع ذلك يدعون أنه ولي.

وأحياناً يكون مجنوناً يمشي في الأسواق عرياناً ليس عليه شيء من اللباس، فيزعمون أنه ولي، فإذا مات عبدوه وقالوا: إنه يتصرف في الكون، وإن الرزق لا يأتي إلا عن طريقه، وإن العافية والصحة لا تأتي إلا بإرادته، النصارى ما قالوا مثل هذا، قالوا أقل من ذلك، ويكفي هذا في موافقتهم، بل هذا زيادة، مع أنه جاء شيء من بعض هذه الأمة -من بعض خواصها- يصل إلى ما قالته النصارى واليهود في أنبيائهم، مثل الذين صار حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه الكذب عليه، وادعوا أنه مشارك لله جل وعلا في كل شيء، بل له ما لله، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه: هناك أناس يقولون: نحن نعبد الله ونعبد رسوله، نعبد الله ونعبد الرسول، ويستدلون بقوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:٩] فيجعلون معنى قوله: (وتسبحوه) يعني: تسبحون الرسول وتعبدونه، فيستدلون بمثل هذا.

وكذلك بعض الشعراء الذين صاروا يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم مدحاً جاوز الحد، فرفعوه إلى مقام الربوبية، كقول القائل مثلاً: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وكذلك قوله: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقمِ يعني يقول: أنا أستغيث وأستجير بك إذا غضب الله يوم القيامة! هذا شيء عظيم نسأل الله العافية! يعوذ الإنسان بمخلوق من الخالق، تعالى الله وتقدس.

كقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ضرة الدنيا هي الآخرة، وهنا (من) تبعيضية، فماذا بقي لله؟! إذا كانت الدنيا والآخرة من جملة جود الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كل ما كتب في اللوح المحفوظ من جملة علومه، فأي شيء أبقى هذا الرجل لله جل وعلا تعالى وتقدس؟ هذا قد يكون أعظم مما قالت النصارى.

والمقصود: أن الذي يقول: إن هذا الكلام فيه مبالغة مخطئ، فليس فيه مبالغة، بل هذا اعتقاد من هذه الأمة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً.