[كلام ابن القيم حول هذه الآية]
قال الشارح: [وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٢ - ٢٣] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات: وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلَّا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه.
فإن لم يكن مالكاً كان شريكاًً للمالك.
فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً.
فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده.
فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً، منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعةً لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه.
فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً، وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك وموادّه لمن عقلها.
والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمُّنه له ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولَعَمْرُ الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناوُل القرآنِ لهم كتناوُله لأولئك.
ثم قال: ومن أنواعه -أي: الشرك-: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالَم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلَّا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك.
فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقُّص بالأموات، وهم قد تنقَّصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقَّصوا من أشركوا به غاية التنقُّص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم!].
يعني: أن هؤلاء الذين يطلبون من الأموات والأولياء الشفاعة، إذا نهاهم أهل الحق عن ذلك قالوا: أنتم لا تحبون أولياء الله، أو لا تحبون أنبياء الله! كالذي يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فإذا قال له إنسانٌ: هذا ما يُطلب إلَّا من الله، ولا يجوز أن تطلبه من الرسول قال له: أنت ما تحب الرسول! أو أنت تتنقَّص الرسول! وما أشبه ذلك، وهذا من الجهل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرضى إلَّا ما رضي الله جلَّ وعلا وأمر الله به، وقد أمره الله جلَّ وعلا أن يبلغ الناس وأن يُعْلِمهم أن الشافعة ملك لله جلَّ وعلا وحده، وأنه من حق الله.
أما تنقُّصهم مَن يدعونه ويتشفعون به فمعناه: أنهم يظنون أنهم راضون عنهم بذلك، وأولياء الله وأنبياؤه لا يرضون بهذا، بل إذا اجتمعوا بهم يوم القيامة يتبرءون منهم، ويعادونهم أشد العداء، ويبرءون إلى الله من أفعالهم.
وأما ظنهم السيئ بالله جلَّ وعلا فهو أنهم ظنوا أنه يمكن للمخلوق أن يشفع لإنسان ولو لم يكن الرب جلَّ وعلا راضياً عنه، وهذا من قياسهم الخالق على المخلوق تعالى الله وتقدس، وهذا غاية التنقُّص.
فمعنى ذلك: أنهم ما عرفوا الله ولا عرفوا قدره، فوقعوا في هذه الأمور التي فيها تنقُّص المؤمنين الموحِّدين وتنقُّص الأولياء والرسل، وفيها إساءة الظن بالله جلَّ وعلا، وفيها الوقوع في الشرك، وعدم معرفة حق الله، حيث صرفوا ما هو من خالص حقه إلى مخلوق لا يملك مع الله شيئاً.