[وجوب التعلق بالله وحده]
قال الشارح: [قوله: باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله.
قلت: هذا من عطف الدال على المدلول.
فإن قيل: قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى (لا إله إلا الله) وما تضمنته من التوحيد، كقوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:٢٣] وسابقها ولاحقها، وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها فما فائدة هذه الترجمة؟ قيل: هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه: من توحيد العبادة، وفيها: الحجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الايات كالآية الأولى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء:٥٦] أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه وعزيراً والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهي كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك، وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله؛ ومضمون هذه الكلمة نفي الشرك في العبادة والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله؛ فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده، وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك؛ لأن دعوة غير الله تأله وعبادة له، و (الدعاء مخ العبادة).
وفى هذه الآية: أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة، ولو كان المدعو نبياً أو ملكاً، وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله، كائناً من كان؛ لأن دعوته تخون داعيه أحوج ما كان إليها؛ لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره، وهذه الآية تقرر التوحيد ومعنى لا إله إلا الله.
قوله: وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:٥٧].
يبين أن هذا سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين قال قتادة: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:٥٧] قال العماد ابن كثير: وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين، وذكره عن عدة من أئمة التفسير.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: في هذه الآية ذكر المقامات الثلاثة: الحب وهو ابتغاء التقرب إليه والتوسل إليه بالأعمال الصالحة، والرجاء والخوف، وهذا هو التوحيد وهو حقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعد ما حلفت عدد أصابعي هذه: أن لا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: الإسلام.
قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلوات المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة) وأخرج محمد بن نصر المروزي من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:٢٢].
يجب على المسلم أن يجعل خوفه ورجاءه وتعلقه بالله وحده فقط، ويعلم أن جميع الخلق لا يملكون ضراً ولا نفعاً من دون الله جل وعلا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ ابن عباس: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فالأمر كله بيد الله جل وعلا، فيجب أن يكون تعلق القلب والتوجه إليه وحده، وأن تكون العبادة خالصة له وحده.
والعبادة تكون بالقلب وتكون بالجوارح، وتكون بهما جميعاً، فمثلاً القيام تعبداً يجب أن يكون لله، والركوع يجب أن يكون لله، والسجود يجب أن يكون لله، والتوبة يجب أن تكون لله، والنذر والدعاء والرجاء والخوف وغير ذلك من أنواع العبادة الكثيرة كلها يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، ولا يجوز أن يتعلق العابد لله بغير الله جل وعلا في دعاء ولا في خوف ولا في رجاء، إلا أن الخوف يكون خوفاً طبيعياً ويكون خوفاً غيبيا، فالخوف الطبيعي كالذي يخاف من السبع أو من الحية أو من الظالم المقتدر على أذاه أو تعذيبه، فهذا لا يضر الإنسان شيئاً، وليس عليه في ذلك شيء.
ولكن الخوف الذي يضر إذا خاف من غائب عنه، فهو يخافه وهو ميت، أو يخافه في أمر ليس من الأسباب الظاهرة، فإن هذا لا يجوز أن يكون إلا لله وحده جل وعلا، فإن حصل للإنسان شيء من ذلك -والعياذ بالله- فقد وقع في الشرك، وهذا الشرك يكون من الشرك الأكبر.
وكذلك المحبة يجب أن تكون لله وحده، فالحب هو لب العبادة وهو التأله، وهو معنى (لا إله إلا الله)، فيجب أن يكون لله وحده، إلا أن الحب -كما سيأتي- ينقسم أيضاً إلى حب طبيعي وحب خاص، فالحب الطبيعي كحب الجائع للطعام والظمآن للشراب، وكذلك حب الألفة والأنس والمصاحبة، وكذلك حب الحنان والرحمة كحب الوالد لولده وما أشبه ذلك فهذا لا ضير فيه، ولا يلام الإنسان عليه، وإنما الحب الذي يكون لله هو الحب الخاص الذي يتضمن الذل والتعظيم، فهذا لا يجوز إلا أن يكون لله؛ إذ كان الحب في ضمنه ذل للمحبوب وتعظيم له، فهذا يكون عبادة لا يجوز أن يكون للمخلوق، وكذلك هذه الآية، حيث استثنى إبراهيم الله جل وعلا فقال: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:٢٧] مما يدل على أنه لا يكفي في عبادة الله جل وعلا أن يقر الإنسان بأن الله هو ربه، مع أنه يوزع عبادته بين الله جل وعلا وبين المخلوقين، فإنه بذلك يكون مشركاً، فإذا قال الإنسان: إن الله هو ربي، وهو خالقي، وهو المتصرف في كل شيء والمالك لكل شيء، وهو المحيي والمميت، وهو الضار النافع، ومع ذلك يدعو غيره من الأموات فهذا الإقرار لا يفيده شيئاً ولا ينفعه، وذلك لأن المشرك لا يقبل منه عمل، والشرك يفسد العمل كله، فلابد في قبول العمل وصحته من الإخلاص، أن يكون الإنسان مخلصاً في عبادته ودعوته واتجاهه إلى الله جل وعلا.