توبيخ وتعنيف المشركين في عبادتهم مع الله ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: {أَيُشْرِكُونَ} أي: في العبادة.
قال المفسرون: في هذه الآية توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:١٩١]، والمخلوق لا يكون شريكاً للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبين أنهم لا {يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرَاً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:١٩٢]، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه؟! وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله، وهذا وصف كل مخلوق، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين، وأشرفُ الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان يستنصر ربه على المشركين، ويقول: (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل) وهذه الآية كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعَاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتَاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورَاً} [الفرقان:٣]]: يحتج الله جلَّ وعلا على المشركين بأن الذين يتعلقون بهم ويعبدونهم كانوا فقراء للرب جلَّ وعلا، وأنهم ليس بأيديهم شيء من ملك الله جلَّ وعلا، وليسوا شركاء له في الملك، ولا يملكون من دونه نفعاً ولا ضراً، حتى قال ذلك لنبيه الذي هو أشرف الخلق، وأمره جلَّ وعلا أن يقول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً} [الأعراف:١٨٨]، أمره أن يقول هذا للناس، وأمره أن يقول لهم أيضاً: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:٥٠]، نذير لكم أنذركم من عند الله جلَّ وعلا، أما ملك الأشياء، وملك النفع والضر والنصر على الأعداء، وإدالة العدو على من يريد، أو نصر من يريد أو ما أشبه ذلك، فهذا كله بيد الله جلَّ وعلا، كما سيأتي في قصة أحد حينما أصابه ما أصابه.
وهذا المعنى كثير في القرآن، يبين الله جلَّ وعلا فيه بطلان عبادة غيره، وفي مقابل ذلك: وجوب العبادة له وحده، وأن تكون خالصة له، وهذا هو الذي ينجي الإنسان، فلا ينجو يوم القيامة إلَّا بالإخلاص، وهو ما أمر به جميع الأمم من أولهم إلى آخرهم من بعثة نوح عليه السلام -أول رسول أرسله الله إلى الأرض- إلى آخر نبي ختم به الأنبياء، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فكلهم يأمر بإخلاص العبادة لله جلَّ وعلا؛ كما قال الله جلَّ وعلا على لسان نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:٢٣]، وكذلك غيره من الأنبياء الذين بعثهم الله جلَّ وعلا إلى الأمم.
يقول جلَّ وعلا: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:٤٥]
و
الجواب
أن هذا لا وجود له، بل هو افتراء من هؤلاء، ويقول جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولَاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦]، والطاغوت: كل ما عُبد من دون الله، وكل ما صد عن شرع الله وعبادته، فهو طاغوت؛ لأن كل ما سوى الرب جلَّ وعلا لا يجوز أن يكون له في الملك والأمر والتشريع والعبادة شيء، فمن تعدى حد العبودية صار طاغوتاً، ينازع الله جلَّ وعلا في حقه أو في ملكه، فإن كان من المعبودات فإنه ينازعه في حقه؛ لأن حق الله جلَّ وعلا على عباده هو إخلاص العبادة له، ولا يكون فيها شيء لغيره، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله عنه: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقال: الله ورسوله أعلم.
فقال له: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وهو حق أوجبه على نفسه جلَّ وعلا، وإلَّا فليس هناك أحد يلزمه بشيء ويأمره به، تعالى وتقدس، وإنما هو الذي يحق الحق ويبطل الباطل، وهو الذي يتصرف في الكون.
ليس للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائعُ إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّموا فبفضله وهو الكريم الواسعُ فله الملك كله، وله الحمد كله، وله الأمر كله، ولا يجوز أن يكون لأحد من الخلق معه شركة، ولهذا قال جلَّ وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:٢٢].
هذا عام أيضاً في جميع المدعوات، فكل مدعو من دون الله لا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، استقلالاً أو مشاركة، فإذا كانت هذه المدعوات لا تملك شيئاً استقلالاً أو مشاركة فماذا بيد داعيهم غير الخيبة والخسران فقط.
ثم أخبر سبحانه أنه ليس له منهم لا معاون ولا مظاهر ولا مساعد تعالى الله وتقدس، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:٢٢] يعني: من يساعده ويؤازره ويعاونه، بل هو وحده القهار الذي يملك كل شيء: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:١] يعز من يشاء ويذل من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء ويؤتيه من يشاء، فالأمر كله له.
وقد يتعلق المشرك بالشفاعة، فأخبر سبحانه أنها لا تنفع، فقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:٢٣].
إذاً: ماذا يبقى في يد من يدعو غيره غير الخسران والضلال والعذاب فقط، والآيات في هذا كثيرة جداً؛ لأن القرآن نزل لإبطال الشرك عموماً في الأرض إلى قيام الساعة، وفيه تبيان لكل شيء، وأعظم ما أوجبه الله جلَّ وعلا على عباده: توحيده وإخلاص الدعوة له، فبين هذا بياناً واضحاً لا عذر لمن أعرض عنه، ولا حجة لمن وقع في خلافه، بعد بيان الله جلَّ وعلا وإيضاحه، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه أيضاً بين للناس ما نزل إليهم، كما قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:٦٧]، ولهذا جعل العلماء هذه الآية حجة قاطعة على إبطال كل بدعة ابتدعت في الدين، وقالوا: لم بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كانت ديناً لبلغها؛ لأن الله جل وعلا أمره أن يبلغ ما نزل إليه، فلم يترك شيئاً مما أُمر به إلَّا بلغه ووضحه وأبانه.
ثم كذلك أعظم ما حرمه الله جلَّ وعلا على عباده: الشرك، فلهذا جلاّه تجلية واضحة لمن يعقل، فلا عذر لمن وقع في الشرك بعد الإيضاح التام والبيان الكامل الذي بينه ربنا جلَّ وعلا في كتابه، وكذلك بينه رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذان الأمران من أعظم الأمور التي بينها الله في كتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته.
فكيف يقول قائل: إن من ترك التوحيد ووقع في الشرك، يكون معذوراً بعد هذا الأمر؟! هذا لا يقوله إلَّا جاهل بالشرع، وجاهل فيما أوضحه الله جلَّ وعلا وأوجبه على عباده، فإن هذا أمر ظاهر جداً لا خفاء فيه.