للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقسام الناس عند المصائب]

ولهذا فإن الناس ينقسمون عند المصائب إلى قسمين: قسم تزيده قوة وإيماناً وخيراً وحسنات، وهو الذي يعلم أنها بقدر الله ثم يصبر ويرضى بذلك ويسلم، هذا يزداد بها خيراً وتكون المصيبة خيراً له من عدمها.

الثاني: من يخرج بالمصيبة إلى كفر أو إلى معصية عظيمة، بأن يسخطها ولا يصبر ويتضجر، أو أن يسخط ذلك ويعترض على ربه جل وعلا، ومعلوم أن أفعال الله جل وعلا كلها خير، ولا يجوز أن ينسب إلى الله شر بحال من الأحوال، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) , فكل مصيبة يصاب بها الإنسان فهي من جراء فعله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠]، وأما قول الله جل وعلا عن الكفار: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:٧٨] , ثم قال جل وعلا: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:٧٨]، ثم قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:٧٩]، المقصود هنا بالسيئة: الشيء الذي يسوء الإنسان: من فقده لولدٍ أو فقده مالاً أو انتصار عدو عليه أو ما أشبه ذلك, والمقصود بالحسنة هنا: الشيء الذي ينفعه عاجلاً، كرزق عاجل أو صحة في بدنه أو يرزق ولداً أو نصراً وتأييداً، أو ما أشبه ذلك من الأمور الظاهرة، هذا هو المقصود بالحسنة والسيئة في الآية.

وقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:٧٨]، لا يعارض قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:٧٩]؛ لأن قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:٧٨]، أي: كله مقدر من الله جل وعلا تقديراً وجزاءً، وأما سببها فهو إما طاعة وإما معصية، إن كانت حسنة فسببها الطاعة، والله جل وعلا هو الذي تفضل على العبد وزين في قلبه الإيمان وكره إليه المعصية فعمل الطاعة فكان فضلاً، ثم جاء جزاؤها فصار فضلاً آخر، وهذا كله من الله، وأما إذا كانت سيئة (مصيبة) فإن سببها المعصية وهي من الله جزاءً، وجزاء السيئة عدل، فكون المسيء يجزى على سيئته هذا عدل وحكم حق.

وأما إذا كانت مصائب لا دخل للإنسان في ظاهر نظره فيها، فإنها لابد أن يكون لها أسباب، فإن لم يكن لها أسباب ظاهرة فلها أسباب الله يعلمها، والإنسان قد يخفى عليه، فإن قدر أن الإنسان مطيع فأصيب بمصائب، فإنه لا يخلو إما أن تكون له درجة عند الله رفيعة لا يصلها بعمله، فيصاب بهذه المصيبة حتى ترفع درجته بذلك إذا رضي وسلم واحتسب، أو يكون هو من الجاهلين الذين لا يعرفون ما للمعاصي وما حق الله جل وعلا.

ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يؤدي حق الله على الوجه الأتم المطلوب، مهما أوتي من المقدرة والعبادة والقوة، ولكن الله جل وعلا يقبل اليسير إذا صدق العبد، ويعفو عن الذنب الكبير، فإذا استشعر الإنسان هذه الأمور يهون عليه الأمر ويتسلى بالصبر، فالله جل وعلا جعل الصبر مسلاة لعباده المؤمنين، يصبرون حتى يجعل الله جل وعلا لهم الفرج مما هم فيه، وقد أخبر جل وعلا أن الصبر فيه خير كثير، وأنه ما صبر وصابر إنسان إلا حمد عاقبة صبره، وأن مع العسر يسرين؛ لأنه قال جل وعلا: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:٥ - ٦]، فجاء بالعسر معرفاً بـ (أل)، واليسر منكراً مرتين، فالمعرف هو واحد، أما اليسر فإنه يسران، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين) وهذا في كل الأمور.

قال رحمه الله: [واشتقاقه من صبر: إذا حبس ومنع، والصبر: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما، ذكره ابن القيم رحمه الله.

واعلم أن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على ما أمر الله به، وصبر عما نهى عنه، وصبر على ما قدره من المصائب].