للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حكم من جحد شيئاً من الأسماء والصفات

قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من جحد شيئاً من الأسماء والصفات.

وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:٣٠]].

قوله: [باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات] يعني: ما حكمه؟ وهل يكون مسلماً أو كافراً؟ والأسماء المقصود بها أسماء الله جل وعلا وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: بعد ثبوتها وورودها في النص، فالذي يجحدها يكون قد وقع في الكفر؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:٣٠]، وسبب النزول كما ذكر المفسرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صالح كفار قريش يوم الحديبية أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكتابة الصلح، فكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال مفوضهم سهيل بن عمرو: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ما نعرف الرحمان إلا رحمان اليمامة -يقصد بذلك مسيلمة الكذاب لعنه الله، فإنه كان يسمي نفسه رحماناً-، ولكن اكتب كما كنا نكتب: (باسمك اللهم)؛ لأن أهل الجاهلية هكذا كانوا يكتبون، فقال له أصحابه رضي الله عنهم: نقاتلهم؟ فقال: لا.

أكتب (باسمك اللهم)، ثم لما كتب (باسمك اللهم) قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله قريشاً.

فقال: لا.

لئن كنت رسولاً لله وصددناك عن البيت فقد ظلمناك، -أو لقد ظلمنا-، ولكن أكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً، فقال الصحابة: نقاتلهم؟ قال: لا، الله يعلم أني رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله فكتب كما أرادوا، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:٣٠] وقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:٣٠] يعني: ينكرون هذا الاسم، وقيل أيضاً في سبب النزول غير هذا، وقد ذكر المفسرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة ويدعو فيقول: يا الله يا رحمن! فسمعه أبو جهل أو غيره فقال: يدعونا إلى أن نعبد إلهاً واحد وهو يدعو إلهين يقول: يا الله يا رحمن! فنزلت هذه الآية: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي} [الرعد:٣٠] ونزل قوله جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:١١٠].

وجاء قول الله جل وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:٦٠] هنا الاستفهام استفهام إنكار ((وما الرحمن)) والإنكار هذا إنكار جحود، وهو كفر، وهذا الإنكار هو في طائفة منهم فقط، وإلا فقد وردت أشعار من أشعار الجاهلية فيها ذكر الرحمن والإقرار به وتسميته سبحانه به.

فإذاً يكون هذا إما من باب العناد؛ لأنهم ما كانوا يكتبونه، أو يكون أنكره طائفة منهم فقط، وغيرهم لا ينكره بل يقر به.

ومن المعلوم أن كفرهم أنواع، ولكن أعظمه في العبادة، أي: في كونهم يجعلون وسائط بينهم وبين الله جل وعلا يدعونها ويزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، ومعنى (أنها تقربهم إلى الله زلفى) كما قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] يعني: ليشفعوا لهم، فإنهم يقولون: إنا ندعوهم ونتقرب إليهم ونطوف عليهم ونجلس عندهم لأجل أن يشفعوا لنا، كما يقول ذلك عباد القبور اليوم، فإنهم يذهبون ويستنجدون بالموتى ويطلبون منهم تفريج الكربات وإزالة الملمات وإغاثة اللهفات، بل يطلبون أعظم مما كان يطلبه كفار قريش وغيرهم من العرب، يطلبون منهم رفع الدرجات في الجنات، وهم أموات رميم قد أكل الدود لحومهم، بل وأصبحت عظامهم نخرة، وأصبحت تراباً، لا يستطيعون أن يجيبوهم، بل هم غافلون عن دعوتهم، وهم يزعمون أنهم يسمعون ويعقلون ويجيبون.

ولهذا يأتون إليهم بالقربات، ويجعلون لهم من أموالهم وأولادهم نصيباً، كما كان الكفار يفعلون وينذرون لهم النذور، ويغويهم الطواغيت الذين يجلسون عند صناديق النذور، ويحضونهم على تقديم الأموال فيها حتى يأخذوها ويأكلوها.