[أنواع الأعمال التي يفعلها الناس من العبادات]
قال الشارح: [وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية فأجاب بما حاصله: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه, فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله, من صدقة، وصلاة، وصلة، وإحسان إلى الناس، وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله, لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله, أو إدامة النعم عليهم, ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار, فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب, وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف, وهو الذي ذكره مجاهد في الآية: أنها نزلت فيه، وهو أنه يعمل أعمالاً صالحةً ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة].
صالحة يعني فيما يظهر للناس، وإلا فهي في الباطن فاسدة؛ لأن النية فاسدة.
[النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحةً يقصد بها مالاً, مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها, أو يجاهد لأجل المغنم, فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية].
هذا إشارة إلى سبب الحديث الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، يقول العلماء: سبب هذا القول أن رجلاً خطب امرأة في مكة يقال لها: أم قيس , فأبت وقالت: ما أثيبك إلا أن تهاجر، فإن هاجرت فلا بأس، فهاجر من أجل ذلك, فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إنما الإعمال بالنيات إلى آخره)، يقولون: هذا سببه, وإن كان هذا السبب فيه ضعف، كما قاله ابن رجب أنه ضعيف, ولكن يكفي قوله: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها -أو قال: يتزوجها- فهجرته إلى ما هاجر إليه)، يعني: ليس له من الهجرة إلا ذلك, ومعروف أن الهجرة من أفضل الأعمال, ولهذا حق للمهاجرين أن يقدموا على غيرهم بالفضل لهجرتهم؛ لأن الهجرة هي هجر البلد الذي عاش فيه, وفيه ماله وأهله؛ إلى بلد آخر يكون فيه الإسلام ظاهراً وعزيزاً، ومحارباً للكفر والفساد.
[وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيراً.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله، مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له, لكنه على عمل يكفره كفراً يخرجه عن الإسلام, مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة].
مثل الذي يكون من المسلمين في العمل ولكنه على بدعة تكفره, كأن يعبد أصحاب القبور ويدعوهم، ويطوف عليها، ويتقرب إليهم, وهو يقول: لا إله إلا الله، ويصلي ويصوم, فمثل هذا أعماله فاسدة باطلة؛ لأنه لم يخلص في العبادة ولم يعبد الله وحده، بل عبد معه صاحب القبر، فإن هذا عمله يجزى به في الدنيا فقط.
[ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة, لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام، وتمنع قبول أعمالهم, فهذا النوع أيضاً قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره, وكان السلف يخافون منه.
قال: بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:٢٧].
ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، والحج ابتغاء وجه الله, طالباً ثواب الآخرة, ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصداً بها الدنيا, مثل: أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا, كما هو واقع فهو لما غلب عليه منهما, وقد قال بعضهم: القرآن كثيراً ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين: وهو هذا وأمثاله].
يعني: إذا كان الغالب عليه الإخلاص والتقى, فيكون ناجياً بإخلاصه وتقاه, وإذا كان الغالب عليه المراءاة وإرادة الدنيا, فيكون هالكاً، فهو خاضع لما غلب عليه بالعمل، وهو ما يختم له به؛ لأنه قد يختم للإنسان بعمل صالح يكفر عنه ما سبق, كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، وقد ينعكس الأمر فيختم للإنسان بأعمال سيئة يموت عليها، وتكون خاتمته أنه مات على أسوأ أعماله, نسأل الله العافية!