للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجواب عن حديث عائشة]

الحديث الذي يروى عن عائشة جاء على وجهين: أحدهما: أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، ولما زارته قالت: لو كنت شهدتك ما زرتك.

يعني: لو شهدت موتك ما زرتك، وعبد الرحمن دفن في المقابر، فيكون هذا دليل على الجواز.

وأما الصيغة الأخرى فإنها جاءت مطلقة، أنها رؤيت قد أقبلت من المقابر فقيل لها: ألم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ فقالت: نهى ثم رخص، وهذا -كما هو ظاهر- لا حجة فيه؛ لأن الترخيص للرجال فقط، فإنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها) فإذا فهمت أن النساء دخلن في هذا العموم فمعنى ذلك أنها لم يبلغها النهي الخاص، وإذا لم يبلغ الإنسان أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون معذوراً في ذلك، ولكن لا يكون فعله حجة، مع أن أصل المسألة عند العلماء إذا جاء فعل للصحابي مخالف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينظر إليه، وإنما الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم.

وحديثها الأول كونها تعللت بأنها ما حضرته، ولو حضرته ما زارته، يدلنا بمفهومه أن الزيارة للنساء غير مستحبة، وهذا يدل أيضاً على أن النساء في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة ما كان معروفاً زيارتهن للقبور، وهذا أيضاً دليل آخر يضم إلى المسألة، فإنه لم يعرف أن النساء كن يزرن القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة، ويكون قولها هذا دليلاً على أنها ما بلغها النهي الخاص الذي فيه لعن زائرات القبور، وبهذا يتبين أن الدليل سالم من المعارضة.

يبقى ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها دعاء زيارة القبور إذا زارتهم أن تقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)، فهذا الدعاء جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه عائشة لما سألته، وهذا لا دليل فيه؛ لأن المرأة قد تمر على القبور في طريقها، وإذا مرت في طريقها على المقابر تسلم عليهم كغيرها من الناس، ولكن لا يجوز أن تذهب قاصدة للزيارة، فهذا هو ملخص الكلام الذي ذكره الشارح، وهذا هو الصواب في المسألة، وهو أن النساء ممنوعات من زيارة القبور.

أما مسألة اتباع الجنائز فهذه لا إشكال فيها؛ لأن الأحاديث فيها صحت، ففي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع النساء من ابتاع الجنائز، وروي أنه قال: (إنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت) وهذا تعليل للمنع، فكيف بزيارة القبور؟ فهي أعظم من ذلك، وهذا ينبغي أيضاً أن يكون دليلاً آخر على منع النساء من زيارة القبور، وإذا كان الإنسان يطلب الخير عند الله جل وعلا فينبغي له أن يتحرى الصواب في الأعمال التي يأتيها، ويجتنب الشيء الذي فيه الخطورة، فهذه المسألة لا أحد من العلماء يقول: إن المرأة إذا لم تزر القبور فإنها آثمة، بل بالعكس فإن أكثر العلماء يقول: إنها مرتكبة كبيرة من كبائر الذنوب، فيجب الابتعاد عن مثل هذا، وهذا ليس في هذه المسألة خاصة، بل في مسائل كثيرة نظير هذه المسألة.

ثم الدليل الخاص لا ينسخه الدليل العام، ولا يخصصه كما في هذه المسألة، وهذه مسألة أصولية عند علماء الأصول، وذلك أن الخاص ينص على إخراج أفراد معينين، فيكون الدليل العام ليس متناولاً لذلك، وهذا أيضاً يكون جواباً على من استدلوا بفعل عائشة رضي الله عنها أو نحو ذلك.

قال الشارح: [قلت: ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصاً للرجال، خص بقوله: (لعن الله زوارات القبور) الحديث فيكون من العام المخصوص.

وعما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضاً: منها: أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة رضي الله عنهما معارض لما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ].

يعني: ثبت عنهما أيضاً خلاف ذلك، فلا يثبت بهذا النسخ، ثم هو فعل صحابي والفعل لا يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال الشارح: [ومنها: أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع، وأما تعليمه عائشة رضي الله عنها كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور؛ لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد، والله أعلم].