معلوم أن كل ما يصيب الإنسان من ألم وعذاب في حياته، وبعد موته هو من جراء فعله، وبسبب ذنوبه، وإلا فلو أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم لم يصبه إلا ألم الموت ومرض الموت الذي لابد منه، والذي كتب عليه؛ لأن الله جل وعلا يقول:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ}[الشورى:٣٠].
ويقول جل وعلا في آية أخرى:{لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}[الكهف:٥٨].
وفي آية أخرى:{مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}[فاطر:٤٥] يعني: إذا أخذهم بذنوبهم ما بقي على الأرض حي إلا أهلكه، ولكن سعة حلمه وعدم تعجيله بالعقاب يبقيهم وإن كانوا يعصونه، بل ويعافيهم ويرزقهم.
ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ يجعلون له ولداً ويعافيهم ويرزقهم).
يعني الكفار الذين ينسبون الولد لله جل وعلا، وهذا غاية المسبة وغاية التنقص لله جل وعلا، حيث جعلوه نظيرهم، تعالى الله وتقدس عن قول الظالمين والمشركين.
والمقصود أن الإنسان لو أطاع الله الطاعة الواجبة عليه لسلم من المؤاخذات ومن تسليط العدو، ومن المصائب التي تصيبه، إلا أن مقتضى حكمة الله جل وعلا أن جعلهم يذنبون، ثم منهم من يتمادى في ذنوبه ويأتي العصيان كاملاً، ومنهم من يكون عنده شيء من الإيمان لا يخرج به عن كونه من جملة المؤمنين، ولكنه يكون معذباً بحسب ما ترك من الواجب وما فعل من المحرمات.
وهذا هو مذهب أهل السنة، أن الإيمان يتفاوت بين الناس، فمنهم من يكون إيمانه كاملاً، ومنهم من يكون إيمانه ناقصاً، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، ولا يطلق الإيمان الكامل فيقال:(المؤمن فلان)، إلا لمن كمل في فعل الواجبات واجتنب فعل المنكرات مع ما قام بنفسه وفي قلبه من معرفة الله جل وعلا، وتعظيمه، وخوفه والذل له.
وإذا انتقص من ذلك شيئاً فإنه ينقص من الإيمان الواجب الذي عليه فيكون إيمانه ناقصاً، ولا يجوز أن يطلق عليه الإيمان المطلق، بل يقال: مؤمن عاص، فلابد أن يقيد فيقال: مؤمن عاص، أو يقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته ولهذا ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).
ومعلوم أن الزاني والسارق لا يخرجان من دائرة الإيمان، ولكن الإيمان الذي نفي عنهما هو الإيمان الكامل أي: الواجب الذي يتعين عليه أن يفعله حتى يمتنع من ارتكاب المحرمات، فترك ذلك فترتب على ذلك أنه من أهل الوعيد، أي: ممن يستحق العذاب إلا أن يعفو الله جل وعلا عنه، ولكنه لا يخرج بفعله هذا عن مطلق الإيمان، ولا يخرج من دائرة الإيمان، بل يبقى معه إيمان يبقيه مسلماً، والإيمان يتجزأ فيكون الإنسان عنده جزء منه، وآخر عنده أكبر منه، والآخر يكون عنده إيمان كامل، وهكذا.