للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العلة في تحريم التصوير ورفع القبور]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في المصورين، أي: من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة: وهي المضاهاة بخلق الله؛ لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:٧ - ٩].

فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهئاً لخلق الله، فصار ما صوره عذاباً له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذاباً؛ لأن ذنبه من أكبر الذنوب.

فإن كان هذا فيمن صور صورةً على مثال ما خلق الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه، وصرف له شيئاً من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه؟ فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكاً له فيما اختص به تعالى وتقدس؛ هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به، ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جحد التوحيد واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب! {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:٣١].

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولـ مسلم عن أبي الهياج) الأسدي حيان بن حصين (قال: قال لي علي) هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قوله: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).

فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً لذلك.

أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله.

وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله، فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته، ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحظور، وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطاً لرحال العابدين المعظمين لها، فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة والتضرع لها، والذبح لها والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى عن أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي فذكر حديث الباب وحديث ثمامة بن شفي وهو عند مسلم أيضاً قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها).

وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب.

ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه).

ونهى عن الكتابة عليها كما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره.

ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود عن جابر أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه) وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار، قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم.

والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب؛ مناقضين لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادين لما جاء به، وأعظم من ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهي من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.

قال أبو محمد المقدسي: ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛ ولأن فيها تضييعاً للمال في غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام.

قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا) متفق عليه؛ ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها.

انتهى.

وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ً ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه: مناسك حج المشاهد، مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام].