قال الشارح: [قوله: (فيكون أول من يرفع رأسه جبريل) بنصب (أول): خبر (يكون) مقدماً على اسمها، ويجوز العكس، ومعنى جبريل: عبد الله، كما روى ابن جرير وغيره عن علي بن الحسين قال: كان اسم جبريل عبد الله، واسم ميكائيل عبيد الله، وإسرافيل عبد الرحمن، وكل شيء رجع إلى (إيل)، فهو معبَّد لله عزَّ وجلَّ، وفيه فضيلة جبريل عليه السلام كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}[التكوير:١٩ - ٢١]، قال ابن كثير رحمة الله عليه: إن هذا القرآن لَتبليغ رسول كريم، وقال أبو صالح في الآية: جبريل يدخل في سبعين حجاباً من نور بغير إذن، ولـ أحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال:(رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل بصورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم)، فإذا كان هذا عِظَم هذه المخلوقات فخالقها أعظم وأجل وأكبر، فكيف يُسوَّى به غيره في العبادة دعاءً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره؟! فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى وقد قال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:٢٦ - ٢٩].
قوله:(فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عزَّ وجلَّ من السماء والأرض) وهذا تمام الحديث.
والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلَّا الله، فإن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفاً منه ومهابةً، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته وملكه وعزه وغناه عن جميع خلقه، وافتقارهم جميعاً إليه، ونفوذ تصرفه، وقدره فيهم لعلمه وحكمته؛ لا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن يُجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حق عليهم، فكيف يُجعل المربوب رباً، والعبد معبوداً؟! أين ذهبت عقول المشركين؟! {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الطور:٤٣]، وقال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدَاً}[مريم:٩٣ - ٩٥] فإذا كان الجميع عبيداً فلِمَ يعبد بعضُهم بعضاً بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الرأي والافتراء والابتداع؟ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك، وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله.