العقلانيون هم عباد العقل -الذين يسمون سابقاً بالمعتزلة، وقد قدموا العقل على كتاب الله وسنة رسوله، ويقولون: تثبت الأسماء وترد الصفات، لماذا قالوا ذلك؟ لأن ذكر أسماء الله جل وعلا في كتابه أكثر من ذكر الحلال والحرام، وأكثر من ذكر الأوامر التي يؤمرون بها، فردها معناه: رد لكتاب الله جملة وتفصيلاً، ومعنى قولهم: ترد الصفات: أن أسماء الله مجرد أعلام لا تدل على معاني، ومثال ذلك -ولله المثل الأعلى-: إذا سميت شخصاً زيداً، والآخر عمراً، فأنت تميز هذا عن هذا بهذا الاسم فقط، وإلا فليس له من معنى الاسم شيء، تعالى الله عن ذلك، فهذا يدلنا على إلحادهم، وعلى بعدهم عن معرفة الله؛ ولهذا ترى قلوبهم أقسى القلوب، وصاروا أجرأ الناس على الله جل وعلا، يتجرءون عليه ويصفونه بما لا يستطيع الإنسان أن يتكلم به، قال الإمام عبد الله بن المبارك: إننا لنحكي قول اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي قول هؤلاء في الله؛ لأن قولهم جرأة عظيمة على الله.
فالمسلم يجب أن يكون قدوته كتاب الله، وأن يحذر من أقوال هؤلاء، والمصيبة أن أتباع هؤلاء ملئوا الدنيا بالكتب، وصارت المطابع تلفظ ما لا حصر له من كتب هؤلاء، وهم يزعمون أنهم أهل السنة والجماعة، وهم محرفون حيث يقولون: غضب الله هو نقمته، ويد الله: نعمته، ورحمة الله: إحسانه، وهكذا، فهؤلاء يزعمون أنهم أهل السنة، ومن أثبت لله غضباً على ظاهر اللفظ، وأثبت له رحمة ومحبة ويداً ورجلاً على ما جاءت به النصوص؛ سموه مشبهاً، ويحذرون من بعض الكتب مثل كتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وكتاب الدارمي , وكتاب الإمام أحمد، وكتاب ابن خزيمة، وغيرها من كتب أعلام السنة، ويقولون: هذه ما ينبغي أن يقرأها الإنسان؛ لأن فيها خطورة، ولانحرافها عن التنزيه، فيسمون تعطيل صفات الله: تنزيهاً، وقد قال أحد هؤلاء في كتاب التوحيد للإمام محمد بن خزيمة: هذا كتاب الشرك، وقال الآخر في كتاب الإمام عبد الله بن أحمد -كتاب السنة- هذا كتاب البدعة.
وليس هناك عداوة أكثر من معاداة الإنسان في العقيدة، فإذا خالفك أحد في العقيدة فلا يتفق معك في شيء، ولهذا صار بعضهم يلعن بعضاً، حتى قال بعضهم لأحد هؤلاء -وهو يرد على إمام معروف من أئمة السنة- وهو يريد أن يهدئه، وأن يطفئ شيئاً من غضبه: يا فلان! إني لأرجو أن تلتقي مع هذا الذي ترد عليه في الجنة، وتصطحبان هناك، فماذا قال هذا الرجل نسأل الله العافية؟ قال: الجنة التي يكون فيها فلان لا أريدها، إلى هذا الحد! نسأل الله العافية، كل هذا لأنه خالفه في وصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه.
فالواجب على العبد الحذر، فالأمر ليس سهلاً، ونضرب مثلاً لمصير الطائفتين: لو كان هناك اثنان: أحدهما يقول: إن الله لا يوصف بيد، أو رجل، ولا يوصف بأنه يغضب، أو يحب أو يفرح، ولا يوصف بأنه يضحك؛ لأننا إذا وصفناه بهذه الأوصاف شبهناه بالمخلوقين، لأن هذه صفات المخلوقين.
وآخر يقول: أنا أثبتها على ظاهرها، وأعتقد أن الله له هذه الصفات المذكورة على ما يليق به، ثم مات هذا وهذا، والتقيا بين يدي الله، وسألهما الله جل وعلا، فقال للأول: ما مستندك؟ فسيقول: عقلي، وقول فلان وفلان من الأئمة، ولو قال للثاني: ما مستندك؟ فسيقول: كتابك، وقول رسولك، فأيهما أولى بالنجاة؟ وأيهما أولى بالعذر؟ لا شك أنه الثاني؛ لأنه اعتمد على كتاب الله وسنة رسوله.
ثم هناك شيء ينبغي أن ننبه عليه، وهو أنه ما دام هؤلاء يقولون: إن هذه الأشياء ظاهرها مشابهة الخلق، فمعنى ذلك أن كتاب الله ظاهره التشبيه، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز أن يقال هذا؟ هكذا صرح الصاوي في حاشيته على الجلالين في تفسير سورة الكهف فإنه قال: الأخذ بظواهر كتاب الله كفر، وصل إلى هذا الحد؛ لأنه يقول: لا يجوز أن نقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}[طه:٥] على ظاهر القرآن، لكن نقول كما قال الجعد بن درهم الذي أتانا بعقائد الصابئة والزنادقة، ويريد أن يفرق بين المسلمين ويشتت أذهانهم ويفسد عقائدهم، هذا هو غرضه ومراده، ولهذا ضحى به خالد بن عبد الله القسري رحمه الله لما قيل له: إن هذا الرجل ينكر أن يكون الرب جل وعلا يتكلم، وينكر أن يكون الرب جل وعلا يحب، فإنه يقول: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، لماذا يقول هذا؟ لأن الكلام عنده يتطلب لساناً، وشفتين، ولهاة، وحنجرة، ومقاطع أصوات، وكذلك المحبة والخلة تقتضي الميل إلى المحبوب، والحاجة إليه، ويقال لهذا المبطل: الذي يحتاج إلى لسان ولهاةٍ وحنجرة وشفتين كلامك أنت وأمثالك، أما الله جل وعلا فلا نظير له ولا شبيه.
فلما قال هذا القول، ونمي إلى أحد قواد بني أمية خبره؛ طلبه، فأمسكه وقيده بالحديد، وكان الوقت وقت عيد الأضحى، وكانت العادة أن القائد هو الذي يخطب الناس ويصلي بهم، وإذا لم يكن القائد عالماً ما يصلح أن يكون قائداً في ذلك الوقت، فجاء بهذا الرجل مقيداً إلى المصلى، وقد خرج الناس إليه، فصلى بهم صلاة العيد ثم قام يخطب، وفي آخر الخطبة قال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل من على المنبر وذبحه أضحية؛ فشكره العلماء على هذا، شكروا صنيعه ودعوا له؛ لأن هذا طاغوت زنديق يريد أن يفسد الدين.