[المشركون الأوائل أعقل من مشركي زماننا]
كثير من الناس بلي بالتعلق بالأموات، حتى أصبحوا يعبدون من يظنون فيه الصلاح عبادة أكثر من عبادة الله جل وعلا، وهذا الميت قد دفن في التراب وأصبح لا يستطيع أن يكف عن نفسه الديدان التي تأكل بدنه؛ فكيف يسأل ويطلب منه؟! ويزعمون أن هذا من الأولياء، وأن الأولياء لهم جاه عند الله، وأنهم إذا سألوا الله شيئاً أعطاهم، فهم يسألونهم ليسألوا الله، هذا هو مبنى عبادتهم، وهذه -في الواقع- هي عبادة المشركين الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليحذرهم من هذا الفعل، ويدعوهم إلى تركه، بل أولئك أكثر عقلاً من هؤلاء، فقد قالوا: إن هذه المعبودات: الأشجار والأحجار والموتى والملائكة وغيرهم، لا تتصرف مع الله ولا تملك شيئاً مع الله، ولكننا نجعلها وسائط بيننا وبين ربنا تشفع لنا، فقال الله جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:٤٣] يعني: كيف تتخذونهم شفعاء وهم بهذه الصورة: لا يملكون شيئاً، وشيئاً: نكرة في سياق النفي فيعم ويدخل فيه كل ما صح أن يطلق عليه أنه شيء، ومعنى ذلك: أنه ليس عندهم أي ملك، لا شفاعة ولا غيرها، {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:٤٣] قالوا: هي ليس لها ذنوب، بل هي مطيعة لله، ونحن نطلب منها أن تتوسط لنا، وأعظم حججهم: أنهم وجدوا آباءهم على هذا الفعل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} يعني: على ملة ودين {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:٢٢] يعني: نتبعهم ونقتدي بهم وهم أسوتنا وأئمتنا.
وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك! تملكه وما ملك، ويعترفون بهذا: هو شريك لك، تملكه وما ملك! يعني: ليس له ملك معك، ولكنه شريك في الدعاء وفي الشفاعة فقط، هذا هو قولهم، أما هؤلاء الذين يعبدون القبور فهم يجعلون هؤلاء وكلاء لله، يتصرفون في الكون كله؛ لأنه إما قطب من الأقطاب التي تدور الدنيا والكون عليها! فلا يدخل البلد شيء إلا بإذن هذا الميت الرميم، ولا يخرج منها شيء إلا بإذنه، هكذا تقول غلاة الوثنية.
فمعنى ذلك: أنهم يسلبون ما لله جل وعلا من الصفات، ويجعلونها لعظام رميم، وربما تكون هذه العظام في جهنم كبعض الطواغيت التي تدعى ويزعم أنها من الأولياء وهي من الأشقياء، كأصحاب وحدة الوجود، وكذلك غيرهم ممن عرف بأنه جاسوس لدولة كافرة، ثم يموت فيقبر وتبنى عليه القباب ويدعى الناس إلى عبادته، فيصبح من أكبر المعبودات، وهذه حقيقته، وربما يكون خيالاً لا حقيقة له، وإنما جاء الشيطان إلى إنسان من الناس فقال: هذا قبر ولي، فبنى الناس تقربهم وذهابهم إلى هذا القبر على هذه الرؤيا الشيطانية، والشيطان حريص كل الحرص على إضلال الناس، وقد وجد في دعوتهم إلى عبادة القبور سهولة، فهم ينقادون له في هذا، بينما لو دعوتهم إلى عبادة الله لنفروا واشمأزوا، ولو قلت لهم: هذا لا ينفع ولا يضر، بل فعلكم ضرر محض؛ لرموك بالعظائم واشمأزوا كما قال الله جل وعلا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:٤٥] يعني: إذا قيل لهم: اعبدوا الله وحده؛ نفروا وأبوا، أما إذا ذكر تعظيم المقبورين فإنهم يفرحون ويستبشرون ويقبلون على ذلك، لماذا؟ ما السبب؟ السبب ما في النفوس من حب الباطل، وميلها إلى القبور، وهذا هو سر كثرة التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم، عن الصلاة حول القبور وتحري العبادة عندها.
قال الشارح: [ودل الحديث على أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثناً، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه.
ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها، وقد عظمت الفتنة بالقبور بتعظيمها وعبادتها].
التوابيت أنواع: النوع الأول: تابوت ينصب فوق القبر، إما من رخام يضعونه فوق القبر منصوباً، ثم يضعون عليه الستور من الأقمشة الثمينة جداً كالحرير وغيره، ويغطونه ويسترونه، فهذا نوع.
النوع الثاني: يجعلون تابوتاً من الخشب شبيهاً بالنصب، ويضعونه فوق القبر، ثم يكسونه بالأقمشة النفيسة، وكلما تقادم الوقت على هذه جدودها ونظفوها وزخرفوها، وهذا يفعله سدنة الأوثان، وسدنة القبور، وربما فعله الأثرياء، وربما فعله القادة، فبعض القادة قد يموت له قريب فيضعون عليه هذه الأشياء ويكون سبباً لعبادة الناس له، فيكون هذا من الدعاة إلى جهنم نسأل الله العافية.
ووجود النصب والتوابيت على القبور كثير، وربما بنوا عليها البنايات، والذي يذهب إلى هذه الأماكن يشاهد ذلك ويعرف كيف يصنعون بها، وكيف يصنعون عندها، وكيف يتعبدون، وكيف يغرون العامة الذين هم أشباه الأنعام، وليس عندهم معرفة بالحق، ولا ما يميزون به عبادة غير الله جل وعلا من عبادة الله جل وعلا، وربما زيادة في الفتنة ذهب معهم أصحاب عمائم، يتعممون ويقال: إنهم علماء، فيدعون إلى عبادة القبور، فيكون ذلك زيادة فتنة لهؤلاء، ويكون حجة لهم، فيقولون: هؤلاء العلماء قدوتنا، ونحن نتبعهم، فإذا جاء منكر وأنكر عليهم لم يقبلوا منه، ويقولون: أنت ليس عندك علم مثل العالم الفلاني الذي يفعل كذا ويفعل كذا، والمقصود: أن النفوس عندها في الواقع إقبال على مثل هذه الأشياء، والحق قد يكون ثقيلاً على النفوس، وأما الباطل ففيه سهولة على النفوس، ويكون هذا من معنى الحديث الذي جاء في الصحيح (أن الله جل وعلا لما خلق النار أمر جبريل أن يذهب فقال: انظر إليها، فلما رآها يحطم بعضها بعضاً قال: والله لقد ظننت أنه لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم قال له: اذهب وانظر إلى الجنة، فلما رآها قال: والله لقد ظننت أنه لا يسمع بها أحد إلا دخلها -لما فيها من النعيم وفيها من قرة العيون- ثم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، فقال الله جل وعلا له: اذهب فانظر، فلما نظر إلى النار وقد حفت بالشهوات قال: والله لقد خفت ألا ينجو منها أحد، ولما ذهب إلى الجنة وقد حفت بالمكاره قال: لقد خفت أن لا يدخلها أحد).
المسألة ليست سهلة بل صعبة، ولا سيما إذا كان الإيمان ضعيفاً، وكثير من الناس إيمانه شبه الحلم، لو شكك في إيمانه لشك، والشك في الإيمان بالله جل وعلا وبالبعث وبالآخرة كفر، وقد قال الله جل وعلا حاكياً عن الرجل الكافر: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:٣٦] فلما قال هذا قال له الذي يحاوره: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:٣٧].
فالشك في الله، أو في البعث، أو في وعده من الكفر.
فالكثير من الناس يكون إيمانه ضعيفاً، ويكون علمه قليلاً، فإذا رأى كثرة الناس على شيء من الكفر تبعهم على كفرهم.