وهذه رؤيا رآها أحد المسلمين وهو الطفيل، ولكن الرؤيا قد تكون سبباً لأمرٍ يشرعه الله، كما صارت الرؤيا سبباً في مشروعية الأذان، ففي حديث عبد الله بن زيد (أنه انصرف من عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهتم بأمر الصلاة كيف يتحينون لها وقتاً! ولا كان ينادى لها، فمنهم من يقترح أن يكون هناك ناقوس يضرب به أو نار، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كره هذه الأمور، فذهب ورأى في منامه أنه جاءه آت ومعه بوق فقال له: ألا تبيع هذا؟ قال: وماذا تصنع به؟ قال: أنادي به للصلاة، قال: أولا أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر إلى آخر الأذان، ثم ذكر له الإقامة، فذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنها رؤيا حق، ألقها على بلال فإنه أندى منك صوتاً).
فكان هذا سبب مشروعية الأذان، وهذه الرؤيا سبب النهي عن مثل هذا القول، أن يجمع الإنسان بين ما هو من فعل الله وما هو من فعل المخلوق في كلمة واحدة وذلك (بالواو) كقول: ما شاء الله وشئت، أو: هذا بك وبالله، أو أن هذا فعلك وفعل الله، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا يكون من الشرك بالألفاظ؛ لأنه جمع بينه وبين فعل الله جل وعلا.
وهذه المحاورة التي حصلت في الرؤيا بين الطفيل وبين جماعة من اليهود وجماعة من النصارى تدل على أن الرؤيا ليست خيالية، بل هي أمور واقعية، وتدل كذلك على تعصب أهل العقيدة الباطلة، فإنهم يتعصبون لعقيدتهم، وتدل على فهم أصحاب الباطل، فإنهم يفهمون الدقائق ومع ذلك لا ينفعهم.
وهنا لما قال لهم:(إنكم لأنتم القوم) يعني: إنكم عندكم كمال غير أن فيكم عيباً، وهو: أنكم تقولون: عزير ابن الله، وعزير رجل صالح جعلوه ابن لله، لأن الله جل وعلا علمه التوراة، فهذا من أعظم الشرك بالله جل وعلا، ومن أعظم التنقيص من المخلوق لله جل وعلا، فإنه جهول ظلوم، جهل عظمة الله ولم يقدره حق قدره، فعدلوا عن هذا الإنكار وهذا العيب العظيم إلى شيء يسير ولكنه من نوعه، قالوا:(وأنتم لأنتم القوم) يعني: عندكم من الكمال والاستعداد (لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد) يعني: أن هذا هو عيبكم حيث لم تخلصوا لله جل وعلا.
وكذلك قال النصارى لما قال لهم:(إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله) وهذا من جنس قول اليهود، ومن أعظم الشرك والتنقص لله جل وعلا، كيف يكون الرب جل وعلا له ابن وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؟ تعالى الله وتقدس، هو الأول بلا ابتداء، وهو الآخر بلا انتهاء:{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الحديد:٣] هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل الخلق فقراء، وكانوا عدماً فأوجدهم، ولابد أن يصيروا إلى العدم فهم فقراء، فهذا من جهل الإنسان وظلمه، وإذا اجتمع الجهل والظلم فإنه يتحتم ويجتمع البلاء كله، نسأل الله العافية.
فلما قص الرؤيا على الرسول صلى الله عليه وسلم بادر إلى إنكار هذا القول الذي يصدر منهم، فقال:(إنكم تقولون كلمة كنت أعرفها، ولكن كان يمنعني من إنكارها كذا وكذا)، وجاء في رواية:(يمنعني من إنكارها الحياء) ومعنى ذلك: أنه كان يمنعه من إنكارها أن الله لم يوح إليه فيها شيئاً، وإلا فمجرد الحياء لا يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنكار المنكر، غير أنه لا يقول إلا بأمر الله جل وعلا، وهذه الرؤيا من أقسام الوحي، وقد جاء أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وإذا كانت صالحة فهي حق، ولكن هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني أن تكون الرؤيا سبباً لتشريع أمر من الأمور، أما بعد ذلك فلا يجوز أن يثبت بالرؤيا حكم من الأحكام، وإنما تكون الرؤيا إما بشارة وإما نذارة، يعني: تبشر الإنسان إذا كان من أهل الخير المحبين، أو تنذره إذا كان من أهل المعاصي، وقد فسر قول الله جل وعلا:{لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[يونس:٦٤] بالرؤيا الصحيحة الصادقة، والرؤيا إذا كانت من إنسان صالح ويصدق الحديث فغالباً ما تكون صادقة، أما إذا كان لا يصدق ويكذب في الحديث فرؤياه لا تصدق ولا تكون صحيحة.