قال الشارح رحمه الله:[ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له].
معنى قولهم: تقبل النذر، يعني: إذا نذر لها حصل بالمنذور الذي طلبه الناذر، هذا معنى قولهم: تقبل النذر، يعني: أننا إذا سألناها وقدمنا إليها بما يقدم لها من ذبح أو مال أنه يحصل لنا مطلوبنا، فمعنى ذلك: أنها تستجيب، وأنها تسعدنا بمطلبنا، وهذا هو الشرك الأكبر بعينه، فالعبادة يجب أن تكون لله جل وعلا، ولا يجوز أن تكون لغيره مهما كانت كبيرة أو صغيرة، بل يجب أن تكون لله وحده، وإلا وقع الإنسان في الشرك والمخالفات.
قال الشارح رحمه الله: [وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)].
المقصود بهذا أنه صلوات الله وسلامه عليه سأل ربه أن لا يكون قبره وثناً يعبد، فمفهوم هذا أنه لو قدر -ولا يكون إن شاء الله- يعبد قبره فسيكون وثناً.
فإذاً: قبور غيره بنبغي من باب أولى أن تسمى أوثاناً، والواقع أن العبادة ما تقع عليه، وإنما تقع على من زين هذا وأمر به، وإلا فالعابد والمعبود إذا كان قد رضي بهذا فكلاهما سواء، ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله:(الطاغوت كل من عبد من دون الله) وإن كان بعض الناس استدرك عليه، وقال: ينبغي أن يقيد هذا، وأن يقال: كل من عبد من دون الله وهو راضٍ؛ لأن كثيراً من الرسل كعيسى عليه السلام وعزير، وكذلك كثير من الأولياء يُعَبدون من دون الله وليسوا طواغيت، ولكن مقصود القائل بهذا أن من تقع عليه العبادة بالصورة أنه طاغوت؛ لأنه معبود، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في ذكر الشفاعة الكبرى؛ عندما يقف الناس الوقوف الطويل العظيم ثم يلهمهم الله جل وعلا -إذا أراد أن يرحمهم- بأن يطلبوا الشفاعة، فيطلبون الشفاعة من الرسل، وكل واحد يدفعها إلى من بعده من أولي العزم حتى تصل إلى سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيشفع، وذكر صفة الشفاعة أنه يذهب إلى مكان معين تحت العرش فيخر ساجداً، ويفتح الله عليه من المحامد والثناء الشيء الذي يرضى الله جل وعلا به.
ثم بعد ذلك يقول له: اشفع، وقبل أن يقول له: اشفع لا يشفع؛ لأن الله جل وعلا يقول:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}[البقرة:٢٥٥]، فيسأل ربه أن يأتي ليفصل بين خلقه ويحاسبهم، هذه هي الشفاعة الكبرى، وهي شاملة لجميع الأمم ليست خاصة بالأمة هذه، ولهذا سمي هذا المقام بالمقام المحمود التي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهذا مثل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حقيقة الشفاعة: إن في الشفاعة إرادة رحمة الله بالمشفوع وإظهار كرامة الشافع، هذه حقيقتها، وإلا فهي لله كما قال جل وعلا:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}[الزمر:٤٣ - ٤٤].
والمقصود: أنه إذا جاء ربنا جل وعلا ليحاسب عباده فهو الذي يتولى المحاسبة جل وعلا، كما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(واعلموا أن كل واحد منكم سيلقى ربه فيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان، فيقول: يا عبدي! ألم تفعل كذا وكذا في وقت كذا وكذا) إلى آخره.
ولكن هذا للمؤمنين الذين يحاسبون هذه المحاسبة، ويسألون هذه المساءلة، أما الخلق وعموم الكفار والمشركين فإنه إذا جاء جل وعلا ليفصل بينهم، يكلمهم جميعاً، ويقول تعالى وتقدس:(أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟) فكلهم يقولون: بلى يا رب! هذا عدلك، عند ذلك قال صلوات الله وسلامه عليه:(فيؤتى بكل معبود في الدنيا إلى عابده، ومن كان يعبد المسيح وعزير والملائكة، يؤتى بشياطين على صور تلك المعبودات، ثم يقال لهم: اتبعوهم إلى جهنم، فيتبعونهم) وهذا كما قال الله جل وعلا في كتابه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:٩٨] أي: العابد والمعبود، أما إذا كان المعبود نبياً أو صالحاً فإن الله جل وعلا يقول:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}[الأنبياء:١٠١]، لأنهم في الواقع ما عبدوهم، وإنما عبدوا شيطاناً زين لهم هذا الشيء، ولهذا يؤتى بذلك الشيطان على صورة ما يتخيله العابد، فيقال له: هذا معبودك فاتبعه.