قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:٢٣]].
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}: هذه الآية في سياق قصة موسى عليه السلام، لما أمر قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله جل وعلا لهم، قال في خاتمة ذلك:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}: يعني: هم جبابرة، ولهذا قالوا:{إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ}[المائدة:٢٢]، {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا}[المائدة:٢٤]، ومعلوم أن عندهم من الإباء والتعنت والاستكبار والامتناع من طاعة رسولهم الشيء الذي ذكره الله جل وعلا عنهم، فلهذا قالوا في هذه الآية:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:٢٤]، وفي هذا تحدٍ وعناد وتكبر على الله وعلى رسوله موسى كليم الرحمن صلى الله عليه وسلم، ولهذا فقد لقي موسى منهم الأذى الكثير، ولكنه صبر، ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: وهو يقسم مالاً -حسبما أمره الله جل وعلا- بين كبار القبائل رؤساء القبائل يتألفهم به حتى يؤمنوا فتؤمن قبائلهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(إني قاسم ولست بمعط المعطي هو الله)، يعني: أنه يفعل ما أمره الله، فكان يقسم ذهباً جاءه من اليمن فقسمه بين أربعة أنفار من رؤساء القبائل يتألفهم لعلهم يسلمون فتسلم قبائلهم، فجاء رجل وقال له: إن هذه القسمة لم يرد بها وجه الله! هل يقال للرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا الكلام؟! ولهذا تغير لون وجهه صلى الله عليه وسلم ثم رجع وقال:(رحم الله موسى لقد أوذي أكثر مما أوذيت فصبر)، فصبر صلوات الله وسلامه عليه تأسياً بموسى، فموسى عليه السلام يأمر قومه لما نجاهم الله جل وعلا من فرعون وأراهم الآيات الباهرة: من فلق البحر لهم حتى صاروا يمشون فيه في طرق يابسة لا يخافون فيها غرقاً ولا زلقاً، والبحر واقف عن يمينهم وعن شمالهم كهيئة الجبال، وهم يسيرون في وسط البحر في طريق يابس، ثم لما تكاملوا خارجين من البحر، ودخل فرعون وقومه وتكاملوا في الدخول أمر الله جل وعلا عبده ورسوله موسى أن يضرب البحر مرة أخرى بعصاه، فالتأم البحر عليهم وأهلكم وبنو إسرائيل ينظرون، وكونه يهلك عدوهم هلاكاً جماعياً بحيث لم يبق منهم أحداً، فهذه نعمة كبيرة يجب عليهم أن يشكروها، ويقابلوها بالعبادة الخالصة لله جل وعلا، وقد قالوا قبل ذلك لما صار البحر أمامهم وفرعون خلفهم:{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}[الشعراء:٦١]، أين المفر؟ البحر من الأمام وفرعون من الخلف! يخاطبون موسى:(إِنَّا لَمُدْرَكُونَ): يعني: فرعون أدركنا، فقال موسى عليه السلام:{كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشعراء:٦٢]، الذي أمره بهذا المسير وبهذا الطريق الله، وإذا كان أمره الله فلن يدرك، فلهذا أمره الله جل وعلا أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فصار طريقاً يابساً، فلما عبروا منه أطبقه الله على فرعون وجنوده وأغرقهم أجمعين.
وبعد ذلك وعدهم الله جل وعلا الأرض المقدسة وكان فيها جبابرة يقال: إنهم من العرب، فأمرهم موسى أن يقاتلوهم ويأخذوا بلدهم، فخافوهم وقالوا: إنهم جبارين، كبار الأجسام والقوى لا نستطيع أن نقاتلهم، قال لهم:{ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}[المائدة:٢٣]، فأبوا.
والمقصود: أنه ذكر في آخر القصة قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:٢٣]، ومعلوم أن هذا الخطاب نزل على خاتم الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه، وإن كان المذكور قصة بني إسرائيل مع نبيهم فنحن المقصودون، أما أولئك فقد أبوا أن يؤمنوا وأبوا أن يقبلوا خطاب الله -أعني: بقاياهم- وأما الذين كان فيهم موسى وكانت فيهم هذه القصة فقد هلكوا وذهبوا، فالمؤمن أكرمه الله جل وعلا، والكافر أهانه الله جل وعلا، ومعلوم أن بني إسرائيل فيهم المؤمنون وفيهم الأتقياء، وفيهم من هداه الله، وقد قال جل وعلا:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[الجاثية:١٦]، ولكن المقصود بالعالمين: عالم وقتهم وليس هذا عاماً لمن يأتي بعدهم، فإن هذه الأمة أفضل منهم، والأسوة في اتباع الأنبياء؛ لأن دينهم واحد وكلهم جاءوا بالأمر بطاعة الله جل وعلا، ولهذا قال الله: جل وعلا عند قصة كل نبي أن ذلك النبي قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف:٥٩] فالدعوة واحدة والدين واحد.
والتوكل: هو اعتماد القلب على من بيده أزمة الأمور مع فعل الأسباب، وليس التوكل: تعطيل الأسباب فإن هذا عجز ولا يكون توكلاً.
فقوله:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا}[المائدة:٢٣]، يعني: قاتلوا واعتمدوا على ربكم في نصركم، {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[المائدة:٢٣]، إن: هذه شرطية، يعني: إن كان الإيمان عندكم فافعلوا التوكل، أما إذا لم يحصل التوكل، فهو دليل على انتفاء الإيمان؛ لأن انتفاء شرط مركب على شيء مشروط إذا لم يوجد فمعنى ذلك: أنه لم يوجد، وبهذا يستدل على أن التوكل فريضة على كل عبد.
والتوكل قد ذكره الله جل وعلا في كتابه في آيات كثيرة، وقرنه مع العبادات بأنواعها، فقرنه بالعبادة وقرنه بالتقوى، وقرنه بالإيمان، وجميع صفات المؤمنين قرنت به، وجعل شرطاً في حصول الإيمان فدل هذا على أنه لازم، وأنه لا يجوز أن يكون لغير الله، ويجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فمن صرفه لغير الله وتوكل على غير الله فإنه يكون مشركاً.