وقوله:(عن أبي شريح) هو أبو شريح الخزاعي، وأبو شريح صحابي أسلم بعد الفتح، وجاء أن هذه القصة وقعت في زمن الوفود، والوفود كانت في سنة تسع من الهجرة وما بعدها، فلما وفد مع قومه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم قومه يدعونه ويكنونه بهذه الكنية فدعاه وسأله.
وقوله:(إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين) معناه: أنه كان يقوم بالإصلاح بينهم، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(ما أحسن هذا!) يعني: الصلح بين الفريقين، فكانوا يرضون بحكمه، وهذا كان قبل أن يسلم، ومع ذلك حسنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس تحسين الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك تحسيناً لأحكام الجاهلية، وأهل الجاهلية كان لهم حكام وكانوا لا يقتنعون إلا بالشيء الذي يمكن أن يكون له وجه، فالحاكم الذي ينصب نفسه حكماً للناس عليه أن يعلم أن الناس عقلاء، فيجب أن يأتي بحكم يُقنع الفريقين، أما إذا كان على سبيل الإلزام وبالقوة، واتباع الأسلاف والآباء، وأن هذا حكم يجب أن يُخضع له، فهذا من أمور الجاهلية، ومن أحكام الطواغيت إذا كان بغير حكم الله جل وعلا، ولكن المقصود أن يرضى الفريقان -عن اقتناع بحق- بالحق بالعدل، والعدل كل يرضى به، فالذي حسنه الرسول صلى الله عليه وسلم هو العدل الذي يرضى به الفريقان، وليس حكم الجاهلية؛ حتى لا يلزم أن يقال: إن هذا كان قبل إسلامه عند أن كان يحكم بأمور الجاهلية، فيلزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم حسن ذلك، وهذا غير لازم؛ لأن تحسين الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو للحكم بالعدل الذي يرضى به الفريقان.
ومعلوم أن العرب وغيرهم كان لهم حكام يحكمون بين المتخاصمين والمتنازعين، إما طواغيت، وإما كهان يحكمون لهم بالشيء الذي يكون غائباً، أو يكون الحكم بأمور يتعارفون عليها فيما بينهم وهو ما يسمى بطريقة الآباء، وكل هذا من حكم الجاهلية الذي لا يجوز أن يتحاكم إليه، بل التحاكم إليه تحاكم إلى الطاغوت، ومع هذا كله فإن الحكام الذين يحكمون بينهم لابد أن يحكموا بشيء مقنع؛ لأن الحكم ليس اعتباطاً أو تعسفاً، فإن هذا لا يرضى به أحد، ولهذا ذكروا أن أحد حكامهم الذين كانوا يتحاكمون إليهم جاءه قوم في مسألة وراثية مشكلة؛ لأن العرب كانوا يورثون الذكور ولا يورثون الإناث؛ لأن الذكور -في زعمهم- هم الذين يركبون الخيل ويحمون المال، ويذودون عن الأعراض، أما الأنثى فكانوا لا يعطونها شيئاً من الإرث، وحصل مرة في أهل بيت من العرب أنه توفي رجل منهم وخلف أبناء ومنهم واحد له آلتان: آلة أنثى وآلة ذكر، فأشكل عليهم كيف يصنعون هل يورثونه أم يحرمونه من الإرث؟ فذهبوا إلى أحد حكامهم الذين يحكمون، فلما جاءوا إليه أشكل عليه الأمر، فبقي أربعين يوماً لا يستطيع أن يحكم بينهم، وكل يوم يذبح لهم شاة، وبعد مضي أربعين يوماً بات ليلةً ساهراً ما استطاع أن ينام؛ لأنه وقع في مشكلة لم يعرف كيف يتخلص منها، ففطنت جارية له فقالت: مالك؟ قال: انصرفي عني مالك ولما أنا فيه؟ فلم تزل به حتى أخبرها وقال: الأمر فيه كذا وكذا، فقالت: الأمر سهل، انظر من أي آلة يبول فاحكم عليه بذلك، ففرح وقال: فرجت عني كرباً عظيماً، ولما أصبح الصباح دعاهم وحكم بينهم بهذا فاقتنعوا به.
والشاهد في هذا: أنهم ما كانوا يحكمون إلا بشيء يُقتنع به، ومع ذلك كانت أحكامهم أحكاماً جاهلية، ولكن الناس العقلاء لا يقتنعون بالشيء الذي يكون شبه أفعال الصبيان.
وهذا أبو شريح لم يكن من هذا القبيل، وإنما كان ممن يفصل بين الناس، فإذا كان هناك نزاع بين فريقين وأصلح بينهم صلحاً رضي الفريقان بصلحه؛ لأنه كان يتحرى العدل والإنصاف، ولا يميل إلى فريق دون آخر، وإنما يعدل بينهم فيرضى الفريقان، وعند ذلك سموه: أبا الحكم، مبالغةً في أن حكمه يكون حسناً وصحيحاً ومقبولاً.