للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حديث أبي هريرة في أول من تسعر بهم النار]

قال الشارح: [ثم ساق حديث أبي هريرة عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح.

قال: حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان، أن عقبة ابن مسلم حدثه, أن شفي بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس, فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس, فلما سكت وخلا, قلت: أنشدك بحقي وبحق الله لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما فيه أحد غيري وغيره, ثم نشغ أبو هريرة رضي الله عنه نشغة, ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره, ثم نشغ أبو هريرة رضي الله عنه نشغةً أخرى، ثم مال خاراً على وجهه, واشتد به طويلا، ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى أهل القيامة ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية, فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال, فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار, فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذاك! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق, فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت, ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك! ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله, فيقال له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت, فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت, ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك, ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة).

].

نشغ أبو هريرة، وغشي عليه رضي الله عنه خوفاً من أن يدخل في عمله شيء كهؤلاء؛ لأنه أبو هريرة رضي الله عنه وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخاف على نفسه حتى صار يغشى عليه من شدة الخوف, وذلك لأن آفات الأعمال والعوارض التي تعرض للعبد كثيرة, فيجب أن يحرص الإنسان على تطهير عمله من إرادة وجوه الناس وإرادة الدنيا، وأن يكون خالصاً لله جل وعلا, وكل إنسان مهما كانت حالته يريد من الآخر نفع نفسه فقط, بصرف النظر عن نفعك.

كل الناس يريدونك لهم ولكن الله جل وعلا يريدك لك, إذا عملت عملاً وفاك إياه وزادك, فإن الله لا تنفعه الطاعة كما أنه لا تضره المعصية جل وعلا, فإذا أمر عبده بشيء فهو لمصلحة العبد فقط، وليس لمصلحة الله, الله جل وعلا لا مصلحة له من طاعة الناس، ولا من أمرهم ولا من معصيتهم، فإذا تعدوا حرمات الله فلن يعجزوه جل وعلا, وسوف يأخذهم في الوقت المناسب الذي يريده جل وعلا، ويلقيهم في جهنم ولا يبالي؛ لأنهم عبيده وملكه، يتصرف فيهم كيف يشاء، ولأنهم عصوه, فما أهون أهل النار على الله جل وعلا؟! لأنهم يتضاغون فيها، ويصيحون حتى تنقطع بهم نفوسهم, ولكن لا يفيد الصياح شيئاً.

جاء في التفسير عند قوله جل وعلا: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧]: أن الجواب يأتي بعد آلاف السنين, ويقول لهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧]، وكذلك الآية الأخرى: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:١٠٦]، إلى قوله: {أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:١٠٧]، أخرجنا منها فإن عدنا يعني: أخرجنا إلى الدنيا مرةً أخرى لنعمل الأعمال الصالحة ونطيع, وبعد فتره طويلة جداً يأتيهم الجواب، يقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:١٠٨]، عند ذلك انقطع الرجاء نهائياً, وتصبح ليس فيها إلا زفير وشهيق دائماً, فأي هوان أهون من هؤلاء على الله جل وعلا؟ قد هانوا غاية الهوان, ومقتهم الله جل وعلا وعذبهم.

أما يخشى الإنسان من هؤلاء؟ لهذا كان بعض السلف يبكي بكاءً شديداً؛ ثم إذا لامه أهله, قال: كيف تلوموني وقد توعدني ربي جل وعلا إن عصيته أن يلقيني في جهنم؟ والله لو توعدني أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي ولا تبقى لي دمعة! ولكن الناس يغفلونَ عن ذلك, ولهذا إذا حضر الإنسان الموت يتغير حاله تغيراً عظيماً جداً, وقد يجزع جزعاً هائلاً، ولكن الناس لا يعرفون عنه شيئاً، والإنسان ما دام صحيحاً فإن أمامه المجال والفسحة, وعليه أن يستعتب ربه ويطلب العتبى من ربه -يعني: يتوب عليه- ويعتذر إلى ربه ويعمل؛ لأنه لا يدري متى يبغته الموت، فإنه يأتيه الموت في أي وقت, فالإنسان ما عنده ضمان في أنه يعيش عشر سنوات أو عشرين سنة أو سنة أو يوماً، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤]، هل غداً يكون مريضاً أو يكون صحيحاً؟ أو يكون في عداد الأموات؟ فإذا قيل: فلان مات, انتهى وانقطع العمل والأمل، وأهل الدنيا ينسونه, يعني: آخر خبر به يوم صلي عليه ودفن، يذكرونه أياماً ثم ينسى، وانتهت القضية, من الذي يصلي له؟ من الذي يصوم له؟ قد طبع على عمله وانتهى, إن كان عمل صالحاً فيرتبط بالعمل ويفرح, وإن كانت أعماله فاسدة فما أكثر الحسرات؟! فالإنسان إذا شاهد هذه القبور يراها ساكنة وفيها البلاء, وفيها أمور هائلة جداً, والإنسان سيصير عما قريب إلى ما صار إليه أولئك الذين تقدموه, وهذا في كل وقت، وإلى الآن يصلى على عدد من الجنائز, فالناس الذين تراهم الآن معك لن يبقى بعد مائة سنة منهم على وجه الأرض عين تطرف, كلهم يكونون تحت الأرض، ويأتي آخرون مكانهم وهكذا إلى أن ينتهوا.

فالأمور سائرة بسرعة، ولكن شأن الإنسان وأمره قصير؛ لأن كل الوقت الذي يكون مزرعة له هو عمرهُ فقط، والعمر -كما هو معلوم- أكثره ضائع, بعضه في المجالس قيل وقال, وبعضه في الأكل، وبعضه في النوم، وبعضه في المشي وإضاعة الوقت والتفرج, والذي يعمل فيه لله جل وعلا هو القليل، فلو تبصر الإنسان حق التبصر لطرأ له حالة أخرى غير هذه الحالة، والله المستعان.