السبب في ضلال الأشاعرة أنه ارتسم في قلوبهم وفي نفوسهم التشبيه، فقالوا: نحن لا نعرف كلاماً إلَّا بلسان وشفتين وبلهاة وبحنجرة وبحبال صوتية وما أشبه ذلك، فإذا أثبتنا الكلام لزم أن نثبت ذلك لله جلَّ وعلا فيكون هذا تشبيهاً، تعالى الله عن قولهم! فمعنى ذلك أنهم تخيلوا أن كلام الله مثل كلام المخلوق الذي يعرفونه من أنفسهم، فنفوا ذلك بعد هذا التخيل، وهذا باطل مركب، باطل على باطل، فلهذا قال الأشاعرة: إن الكلام ينقسم إلى قسمين: الأول: كلام لفظي مسموع، وهذا مخلوق.
الثاني: كلام نفسي، وهو عبارة عن معنىً واحد يقوم بنفس الله جلَّ وعلا، وهذا هو الذي يثبتونه لله، يعني: معنىً يقوم بنفس الله جلَّ وعلا، وليس هناك شيء يُسمع أو يُتلى، فعلى هذا يكون القرآن الذي يحفظه المسلمون، وكل واحد يرجو من ربه إذا تلا حرفاً منه أن يعطيه بالحرف الواحد عشر حسنات كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليس كلام الله، وإنما هو كلام البشر سواءً كان كلام جبريل أو كلام محمد صلوات الله وسلامه عليه، ويستدلون بأشياء من المتشابه كقوله جلَّ وعلا:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}[التكوير:١٩ - ٢٠]، وفي الآية الأخرى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ}[الحاقة:٤٠ - ٤٢] والمعنى: إنه قول هذا الرسول يبلغه، فالرسول يبلغ الرسالة، لا أن يأتي بالقول من عند نفسه، وإنما يبلغ رسالة أتى بها؛ ولهذا قال:{لَقَوْلُ رَسُولٍ} والرسول يأتي بالرسالة التي أرسل بها، والكلام يضاف ويُنسب إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وإنما هو لمن قاله أولاً مبتدئاً، ثم إذا كان كذلك فأين تحدي الله جلَّ وعلا للخلق؟! وقوله جلَّ وعلا في آيات عدة:{وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:٢٣]، وقوله جلَّ وعلا متحدياً الجن والإنس:{قل لو اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً}[الإسراء:٨٨]، فهل ربنا جلَّ وعلا يتحدى الإنس والجن على أن يأتوا بشيء في نفسه؟! هذا لا يمكن أن يقال، ولا يمكن لعاقل أن يصدق به، ثم إن الله جلَّ وعلا لا يجوز أن نتخيل صفاته كصفات المخلوق، وأنه يلزم من كونه يتكلم هذه اللوازم التي ذكروها، وقد أخبرنا الله جلَّ وعلا أن الجلود تتكلم، والأسماع تتكلم، والأبصار تتكلم، فهل يلزم أن يكون للجلد لسان وشفتان ولهاة وحنجرة إلخ؟! لا يلزم، فالله قادر على كل شيء، قادر على أن ينطقها بلا هذه الأشياء، والله جلَّ وعلا ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته، ومن المعلوم أن الصفات تتبع الذات، هذا بالنسبة للكلام، فمذهبهم باطل، والواقع أن الذي ينكر كلام الله يلزمه أن ينكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسالة لا بد أن تكون بالكلام، لا بد أن يتكلم المرسل بالأمر والنهي، فيلزم على هذا إنكار الشرع كله.