قال الشارح رحمه الله: [وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (زوروا القبور فإنها تذكر الموت).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:(مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر) رواه أحمد والترمذي وحسنه].
ينبغي لزائر القبور أن يقول هذا الدعاء ونحوه، كأن يقول:(السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، وهذا الاستثناء (إن شاء الله) إما للتبرك أو للمكان أي: أنه يكون في هذا المكان، أما اللحوق فهو أمر متحقق لابد منه، فلابد أن يموت ويلحقه، (نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم)، هكذا ينبغي أن يقول، أما أن يذهب ويقول: أسألك يا فلان! أن تعمل كذا، وتعطينا كذا، أو تتوسط لنا، أو تشفع لنا، فهذا عكس المشروع الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك كون الإنسان يذهب إلى القبر ويتحرى العبادة عنده، يعني: يعبد الله عند هذا القبر، ويظن أن العبادة عنده أفضل، وأنها أرجى للعبادة، ويقول: أنا ما أعبد صاحب القبر، ولكن أعبد الله عند هذا الولي تبركاً، والعبادة عنده أولى من غيرها، فهذا ضلال، وهذا بدعة من أعظم البدع، وهي من وسائل الشرك ودواعيه التي تدعو إليه، فإنه أولاً يقول: أذهب أعبد الله عند القبر، ثم يتدرج به الأمر حتى يعبد صاحب القبر ويدعوه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث عبد الله بن عمر والذي في الصحيح:(لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا فيها)، ويقول:(فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) يعني: أن القبور ليست محلاً للعبادة، والمعنى: لا تجعلوا البيوت مشبهة بالقبور مهجورة من العبادة؛ من الصلاة ومن القراءة، لا تجعلوها بهذه المثابة، وليس المعنى: لا تقبروا موتاكم في البيوت، فهو ما أراد هذا صلوات الله وسلامه عليه، بل معناه: لا تعطلوا بيوتكم من العبادة فتهجروها فتكون شبيهةً بالقبور، فالقبور متقرر عندهم أنها مهجورة من العبادة، لا يتعبد عندها، فالعبادة محلها غير القبر؛ ولهذا يتفق العلماء على أن الصلاة لا تصح في المقبرة، بل هي من المواضع التي لا تصح الصلاة فيها.
وكذلك كونه يوضع قبر في المسجد، فهذا يجعل الصلاة فاسدة باطلة، ولا تصلح الصلاة فيه، فإذا وضع القبر في المسجد وجب أن ينبش ويخرج منه، أما إذا بني المسجد على القبر وجب أن يهدم هذا المسجد؛ لأن القبور لا يجوز البناء عليها، ولا تجوز الكتابة عليها، ولا رفعها بحيث تتميز عن غيرها، ولا وضع شيء يدعو إلى الانتباه ولفت الأنظار إليها، وكل هذا جاء النهي عنه خوفاً من التعلق بها؛ لأنها محل للفتنة.
[فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع، أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك].
معنى كلام الإمام مالك رحمه الله ورضي عنه أن أول هذه الأمة صلح بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك آخرها لا يصلح إلا بهذا الدين، لن تصلح الأمة إلا به، والذي جاء به هو عبادة الله وحده، وتوحيده وإخلاص الدعاء والقصد والتعلق به وحده، هذا هو أعظم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أخذ به الصحابة أحياهم الله جل وعلا، وصاروا بعدما كانوا مشركين دعاة خير وهدى، ونور الله قلوبهم بالعلم والتقى، فصاروا يدعون إلى عبادة الله، ويخرجون الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهكذا إذا أخذ آخر هذه الأمة بما أخذ به أولئك؛ يحصل لهم ما حصل لهم؛ لأن الله جل وعلا يقول:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:١٣]، لا صلة بين العبد وبين ربه إلا بالتقى والطاعة فقط، والأنساب والوظائف والرئاسات والأموال والأبهات ما تفيد شيئاً عند الله، (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فمن كان قلبه تقياً، وعمله مرضياً على وفق شرع الله؛ فهذا الذي يرضاه الله جل وعلا، وبهذا يحصل الصلاح لنفسه ولمن يدعوه ويستجيب له إلى هذا الطريق.