[توحيد الطلب والقصد]
قال الشارح رحمه الله: [النوع الثاني: ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:١]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:٦٤]، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد شاهدة به داعية إليه.
فإن القران إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم.
انتهى].
سبق أن ذكرنا أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد في العلم والعقيدة، وتوحيد في النية والإرادة، وقلنا: إن شئت جعلته قسمين، وإن شئت جعلته ثلاثة أقسام، فمن باب البسط والإيضاح يكون ثلاثة من حيث تعلق التوحيد، فإما أن يتعلق بلفظ الرب جل وعلا فيكون توحيد الصفات والأسماء، أو يتعلق بأفعاله تعالى وتقدس فيكون توحيد الربوبية.
وهذان القسمان يجوز أن نجعلهما قسماً واحداً؛ لأنهما يتعلقان بالرب جل وعلا صفة وفعلاً، فمن العلماء من يجعله قسماً واحداً، ومنهم من يجعله قسمين.
فصفات الله جل وعلا وأسماؤه تثبت بالدليل الذي جاء في كتاب الله جل وعلا، وجاءت به الرسل فقط لا أكثر، ولا دخل للقياس في ذلك، ولا دخل للعقل في هذا، وقلنا: إن السبب في هذا شيئان: أحدهما: أن الله جل وعلا لا مثيل له ولا نظير له فيقاس عليه.
الثاني: أنه تعالى وتقدس غيب ليس يشاهده أحد ولم يره أحد، فليس هناك طريق لمعرفته وتسميته ووصفه إلا الوحي فقط، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:٣] قال كثير من المفسرين: يؤمنون بالله لأنه غيب، فهو غائب عن كل الخلق، وقد قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:٤]، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:٢٢].
فكل هذا يدل على أنه متفرد جل وتقدس، ولهذا اتفق أهل السنة على أن أسماء الله جل وعلا وأوصافه توقيفية، ومعنى (توقيفية): أنه يوقف على النص فيها، فما جاء به النص وجب أن يؤمن به ويعتقد ويقال بمقتضاه، وما لم يأت به النص فلا يجوز أن يشرك بالله شيئاً لم يثبت بنص، والذين ضلوا في هذا الباب لأنهم يعتمدون على عقولهم، فضلوا فيه وتاهوا، فليس هناك طريق يمكن أن يوصل الإنسان إلى الحق إلا الاستمساك بكتاب الله وبسنة رسوله فقط، وهذا في الواقع هو أصل الإيمان، وهو أيضاً أصل دعوة الرسل.
فالله جل وعلا تعرف إلى عباده بما يذكره من أوصافه وأسمائه، وكذلك بأفعاله تعالى وتقدس، فالمؤمنون لا يعرفون الله جل وعلا إلا عن هذا الطريق، بالإضافة إلى الفطرة، ولكن هذه مشتركة بين الخلق كلهم، كل الخلق فطروا على معرفة الله جل وعلا، ولكن هذا لا يكفي؛ لأن هذا قد يتغير، فالفطرة يغيرها المعلم الذي يتولى تعليم الإنسان وتربيته، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، أما إذا ترك ونفسه فإنه يكون قابلاً للحق بل طالباً له، ولا يكفي كونه قابلا له؛ لأنه مولود على الفطرة، بل لابد أن يكون طالباً له، فإذا جاء الوحي لا يمكن أن يرده؛ لأنه موافق لما في فطرته، ولكن التربية هي التي تغير هذا.
فأقسام التوحيد هي هذه الثلاثة، وليس هناك قسم رابع، كما يقول بعض الناس: توحيد الحاكمية، وبعضهم يأتي بقسم خامس ويقول: توحيد المتابعة، فتكون أقسام التوحيد خمسة: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية، وتوحيد العبادة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد المتابعة، فهذا لا معنى له؛ لأن توحيد المتابعة داخل في توحيد الإلهية، وتوحيد الحاكمية داخل في توحيد الربوبية، لأن الرب جل وعلا هو الذي يحكم بين خلقه، وهو الذي يشرع ويأمر وينهى عباده، فإذا انصرف الإنسان إلى شارع آخر ومحكم آخر فإنه أشرك في توحيد الربوبية، والشرك في توحيد الربوبية يستلزم الشرك في توحيد الإلهية.