[شرح حديث:(أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت)]
قال الشارح رحمه الله: [وذكر الحديث، وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله، ولفظه: عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا؛ فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا -وقال بأصابعه مثل القبة عليه-، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب) قال ابن بشار في حديثه: (إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته).
قال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في (الرد على الجهمية) من حديث محمد بن إسحاق بن يسار].
في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال هذا الذي سأل منه الشفاعة ما قال سبح وكرر التسبيح: سبحان الله، سبحان الله وهذا معناه: أنزه لله جل وعلا عما قلت؛ لأن الله جل وعلا ينزه أن يكون شافعاً عند أحد من الخلق؛ لأن هذا ينافي سلطانه وينافي تمام ملكه وقهره، فإن العباد كلهم تحت تصرفه جل وعلا، سواء الأنبياء والملائكة أو غيرهم؛ فلا أحد له مع الله سلطان، بل الملك كله لله عز وجل.
هذا هو سبب تسبيحه صلى الله عليه وسلم بقوله: سبحان الله، سبحان الله، والتسبيح: هو التنزيه والتقديس لله جل وعلا عما لا يليق به.
وهذا القول مما لا يليق به.
وأما معنى الحديث فقوله:(جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال) يعني أنه أصابهم الجدب، وتأخر المطر فأمحلت الأرض وقلَّ الحليب أو انعدم وكانوا يعتمدون على مواشيهم في الأكل والشرب والحمل، فإذا قل ما في الأرض جاع من جراء ذلك العيال وغيرهم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يستسقي ربه جل وعلا حتى يأتي بالمطر فقال:(إنا نستشفع بك على الله)، وهذا اللفظ لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، فالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله شيء كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم، وقد تقدم أن معناه: أن يطلبوا منه أن يدعو لهم فيما يهمهم في أمر دينهم أو دنياهم، أو آخرتهم، فهذا لا ينكر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ما طلب منه إذا لم يكن مخالفاً لأمر الله جل وعلا، وإنما أنكر على الأعرابي قوله:(ونستشفع بالله عليك) يعني: نجعل الله شافعاً لنا عندك حتى تقبل قولنا وتدعو لنا، هذا هو الذي أنكره، وسبح الله جل وعلا من أجله تنزيهاً وتعظيماً لله؛ لأنه ينافي حق الله جل وعلا وملكه.
ومثل هذا كل ما فيه تنقص لله جل وعلا في أسمائه وأوصافه أو في حقوقه أو في سلطانه وملكه، فيجب أن ينزه الرب جل وعلا عن ذلك؛ لأنه لا حق لأحد عند الله، فضلاً عن أن يكون أحد شريكاً لله جل وعلا في التصرف في الملك حتى يكون الرب جل وعلا يشفع عند هذا المخلوق، تعالى الله وتقدس.
وفي هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، فقال:(ويحك! أتدري ما تقول؟)، فدل هذا على أن هذا الرجل جاهل، يجهل حق الله جل وعلا، ويجهل ما يجب لله جل وعلا، فعمله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزه الله جل وعلا عن قوله منكراً له.