للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقسام أهل الاصطفاء]

قال الشارح: [قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:٣٢]، وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨]].

في هذه المعايير جعل المصطفين الذين اصطفاهم الله جل وعلا -والاصطفاء هو الاختيار لجواره جل وعلا في جنة النعيم- جعلهم أقساماً ثلاثة: منهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.

ولهذا فالظالم لنفسه فسر بأنه الذي يترك بعض الواجبات ويفعل بعض المحرمات.

هذا الظالم لنفسه، يترك بعض ما يجب عليه مما أوجبه الله جل وعلا عليه، ويفعل بعض ما حرمه الله عليه، وهذه ذنوب ومعاصٍ، فهذا ظالم لنفسه، ومع ذلك هو من أهل الاصطفاء الذين اصطفاهم الله، والمقتصد هو الذي يفعل الواجب ويترك المحرم، ولا يأتي بالنوافل ولا يترك المكروهات والمباحات تورعاً وتقرباً إلى الله.

أما السابق بالخيرات فهو الذي يفعل الواجبات ويجتنب المحرمات، ويتقرب إلى الله جل وعلا بعد أداء الفرائض بالنوافل من الصلاة والصوم والصدقة والحج وغير ذلك من أفعال الخير، ولكونهم أقساماً ثلاثة صارت الجنة متفاوتة المنازل على حسب الأعمال، فكل من كان عمله أكثر وصدقه مع الله أعظم وقربه إليه أتم كانت منزلته أرفع وأعلى، وقد ذكر أن الجنة منها ما هو للمقربين، ومنها ما هو للأبرار، ومنها ما صاحبه يغبط عليه، حتى النبيون يغبطونه، فإنه جاء أن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف كما نرى الكوكب الغابر في أفق السماء، فهي منازل رفيعة عالية جداً في الجنة، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين درجة وأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله جل وعلا للمجاهدين في سبيله)، فهذه لهم خاصة، والدرجة المقصود بها هنا الجنة، فالدرجات جنات واحدة فوق الأخرى، وهذه ليست لمائة شخص فقط، لا.

بل لأجناس كثيرة جداً، كل مكان في الجنة يسكنها ما يملؤها ممن يشاء الله جل وعلا.

فالمقصود أن الخلق لا يتفقون في الأعمال، منهم المجتهد ومنهم الورع الذي يترك ما هو مكروه أو ملتبس فيه خشية أن يكون حراماً أو ممنوعاً، ومنهم من يفعل ذلك وإنما يجتنب المحرم الصريح ويفعل الواجب الواضح الذي أوجبه الله عليه فقط، والرسول صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنة على أمور خمسة فقط إذا جاء بها الإنسان فإنه من أهل الجنة قطعاً: أحدها: أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

فيعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً.

والثاني والثالث والرابع والخامس: أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت فلما قال له معاذ رضي الله عنه: (دلني على عمل يدخلني الجنة.

قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، فقط هذه الأمور الخمسة جعلها هي الطريق إلى الجنة، وإذا أتى الإنسان بما هو زائد على ذلك من أنواع الخير وأنواع البر فإن درجته في الجنة ترتفع ومنزلته تعلو ونعيمه يزداد، ولهذا فاوت الله جل وعلا بين عباده في الجنة من أجل ذلك.

والمقصود أن الذي يظلم نفسه هو من أهل الاصطفاء، وهو كذلك من أهل الأمن، وإن ناله ما ناله من عذاب أو مصائب تصيبه، فإن هذا يكون تكفيراً له.