قال الشارح:[وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء بكلام تسمعه الملائكة، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفاً وخلفاً، خلافاً للأشاعرة والجهمية ونفاة المعتزلة، فإياك أن تلتفت إلى ما زخرفه أهل التعطيل! وحسبنا الله ونعم الوكيل!] أما كونه يدل على علو الله جلَّ وعلا فهذا ظاهر؛ لأنه ذكر النزول، وذكر أن أول من يسمع حملة العرش الذي هم قرب العرش؛ لأن العرش حوله ملائكة يطوفون به، ويسبحون بحمد الله:{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}[غافر:٧] ثم بعد ذلك ينفذ إلى أهل السماء السابعة، ثم للتي تليها وهكذا، فهو يدل على علو الله، وعلو الله جلَّ وعلا أمر فطري؛ ولهذا جعل العلماء مسألة العلو من صفات الذات، يعني: أن علو الله ذاتي، بمعنى: أنه لا ينفك عنه بحال من الأحوال، ويكون دائماً هو الأعلى في أي وقت كان، ولا يمكن أن يكون شيء فوقه، تعالى الله وتقدس، والشبه التي أوجدها نفاة العلو هي شبه تطرأ على النفوس والفطر، وإلَّا فالخلق كلهم مفطورون على أن الله عال على خلقه، ولهذا علمهم المرشد إلى الهدى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول أحدهم: سبحان ربي الأعلى في سجوده، إذا جعل رأسه أخفض شيء من بدنه، ووضعه على الأرض، يقول: سبحان ربي الأعلى؛ لأنه هو العالي على كل شيء تعالى وتقدس، وكذلك كل عبد من عباد الله سواءً كان مسلماً أو كان كافراً، إذا احتاج واضطر إلى دعوة الله جلَّ وعلا فإنه يدعو الله من فوق، ما تجده يلتفت يميناً أو شمالاً، ولا أسفل، بل يمد يديه فوق، يقول: يا رب! يا رب! ولا أحد علمه هذا، وإنما هذا شيء موجود في فطرته، ولهذا لما كان إمام الحرمين عبد الملك الجويني في هذا المسجد الشريف -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- يقرر ويتكلم في العلم ويقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، ويتكلم بمثل هذه الكلمات التي توهِم، فقام رجل أمامه وقال: دعنا من هذا الكلام الذي لا نفهمه، وكثير منا لا يدري ما حقيقته، ولكن أخبرني: عن شيء أجده أنا في نفسي، ويجده كل واحد حتى أنت تجده في نفسك، ما هذه الضرورة التي في قلوبنا إذا دعا أحدنا ربه رفع يديه إلى السماء وقال: يا رب! يا رب؟! كيف ندفعها؟ فوضع يده على رأسه، ونزل من على الكرسي الذي كان عليه، وصار يبكي ويقول: حيَّرني الرجل! فلا يدري ماذا يقول وماذا يجيب لأن عقيدته على خلاف الحق، والوحي الذي جاء من عند الله يتفق تماماً مع الفطرة التي فُطر عليها الناس، وما أكثر ما يذكر الله جلَّ وعلا الأدلة الواضحة الجلية التي تدل على علوه! كما يقول جلَّ وعلا:{تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ}[الجاثية:٢]{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}[النحل:٥٠]، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}[الملك:١٦]، في أشياء لا حصر لها، كلها أدلة صريحة واضحة على علو الله جلَّ وعلا، ومع ذلك يحاول أهل البدع الذين اعتاضوا عن الوحي المعصوم بالآراء التي تخطئ كثيراً، وتضل كثيراً، وصارت عقوبتهم أن تحيَّروا، ثم هذا الذي يقول ذلك عند الموت يتحيَّر، وهذا الجويني عفا الله عنا وعنه كان -في الواقع- يطلب الحق ولكنه ما وجده، ولا قيَّض الله جلَّ وعلا له من يبينه له؛ لأن الإنسان إذا تلقى شيئاً من مشايخه وفي بيئته يصعب أن يهتدي إليه لمجرد أن يسمع نصاً، لأنه يستبعد كثيراً أن يكون المشايخ الذين تلقى عنهم العلم من الصغر تركوا هذه النصوص ولم يفهموها، أو خالفوها، فيحاول أن تكون النصوص متفقة مع ما يقولونه، فكان عند وفاته يقول: يا أصحابي! لا تشتغلوا بالكلام، فوالله لو كنتُ أظن أنه يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به، ويقول: هأنذا قد تركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي، ويقول: هأنذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور؛ لأنه من أهل نيسابور.
وكذلك غيره من الأذكياء مثل الفخر الرازي عفا الله عنا وعنه، فإنه حار في آخر حياته، وهو أيضاً من ذلك البلد، وقد كان كثير الكلام جداً؛ وكثير التأويل لكلام الله الصريح، ويصرفه عن ظواهره، وفي النهاية ذكر أنه ألف كتاباً سماه: كتاب اللذات، ثم جاء إلى العلم وقال: لذة العلم، وتكلم بكلام يدل على أنه ما استفاد شيئاً من العلم، وقال فيه: وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال إلى آخر ما قال.
فدل على أنه حائر ما استفاد شيئاً.
وذكر المؤرخون أنه كان له تلميذ من أذكى تلامذته، وصار هو خليفته والمرجع في المسائل التي يُختلف فيها في الكلام ونحوه بعد وفاة شيخه، وكان له صديق من الحنابلة، فدخل مرة عليه وهو في مجلسه وحده، وكان مستغرقاً في التفكير، فدخل عليه وسلم، فلم يشعر به لاستغراقه في تفكيره ونظره، فأعاد السلام الرجل مرةً أخرى، فلم يشعر، فأعاد مرة ثالثة، فلم يشعر، فقال في نفسه: ما دهاه؟! وهَمَّ أن ينصرف، عند ذلك رفع رأسه إليه وقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك عليه ساخراً فقال: ماذا أعتقد؟! أعتقد ما يعتقده المسلمون والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي، ويقول: والله ما أدري ماذا أعتقد؛ لأنه اشتغل بالكلام، وترك كتاب الله، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الهدى والنور.
وذكروا في ترجمة الرازي أيضاً أنه مرةً في نيسابور كان معه أكثر من ثلاثمائة تلميذ خلفه، خرج بهم إلى السوق، وعجوز في بابها واقفة تنظر، فسألت واحداً منهم فقالت: من هذا الملك؟ فقال: ليس هذا ملكاً، هذا فخر الدين الرازي يعرف على وجود الله ألف دليل، يقول هذا الكلام ليعظمه في نفسها، فضحكت ساخرةً منه وقالت: يعرف ألف دليل؟! وهل وجود الله يحتاج إلى ألف دليل؟! والله لو لم يكن عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يعرف ألف دليل! وهذا الجويني الذي يقول: هأنذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور، يعني: أنهن يمتن على الفطرة التي فُطِرن عليها، أحسن من الذين توغلوا في علم الكلام الذي يزيد في الشكوك والحيرة.
فلا ينكر علو الله إلَّا من كان بهذه المثابة، تحيَّر وأصبح عنده من الشكوك والريب ما يدفع به النصوص، وإلَّا فالأدلة على وصف الله جلَّ وعلا بأنه يتكلم، وبأنه يسمع ويبصر، وبأنه يَرى، وبأنه يُرى يوم القيامة يراه المؤمنون، بل رؤيته هي أفضل النعيم، وبأنه فوق، وبأنه:(ينزل إلى سماء الدنيا -كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم- كل ليلة ويبسط يده يقول: هل من تائب فيُتاب عليه؟ هل من مستغفر فيُغفر له؟ هل من سائل فيُعطى؟ حتى يطلع الفجر) وهذا كل ليلة.