للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[عصمة الأنبياء]

قال الشارح رحمه الله: [وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقاً وإن تاب منه.

والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصاً, وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة, مع كونهم في الأصل كفاراً, فهداهم الله إلى الإسلام, والإسلام يمحو ما قبله, وكذلك الهجرة, كما صح الحديث بذلك].

يعني: أن الإنسان ما ينفك عن الذنب, ولكن كونه يقع في الذنب هذا ليس نقصاً, وإنما النقص أن يصر على الذنب ويكرره، أما إذا وقع فيه وتاب فهذا ليس نقصاً, ولا ينقصه بل ربما زاده؛ لأنه قد يكون بعد الذنب حالته أحسن منها قبله, كما قيل في أنبياء الله عندما ذكروا مسألة العصمة, وقد اختلف الناس في ذلك فقال طوائف: هم: معصومون مطلقاً من الذنوب الكبائر والصغائر, ومن أن يخطئوا في التبليغ أو غير ذلك.

وطوائف من أهل السنة يقولون: العصمة فيما يبلغونه عن الله جل وعلا فقط، أما الذنوب فليسوا معصومين منها، ولكنهم ما يقرون على ذنب، إذا وقع أحدهم في ذنب نبهه الله؛ فرجع وصارت حالته بعد الذنب أحسن منها قبله، واستدل القائل بهذا بأن الله جل وعلا يحب التوابين، ولا يحرم أولياءه من هذه المحبة.

فإذا تاب الإنسان من ذنبه فقد يكون الذنب الذي وقع فيه سبباً لانكسار قلبه وحيائه من ربه, ولا يزال يطالع في قلبه ذلك الذنب, ويحدث توبة وانكساراً وذلاً واستغفاراً حتى يكسب بسبب هذا الذنب أشياء ما يكتسبها لو لم يقع فيه.

وهذا واقع لكثير من الناس, ولهذا جاء في الحديث: (إن الرجل يذنب الذنب يدخل به الجنة)، قيل: كيف؟ قال: إنه لا يزال مستحياً من ربه, منكسر القلب, يستغفره حتى يدخل بسبب ذلك الجنة، وهذا هو الصواب.

ولهذا ذكر الله جل وعلا عن آدم وهو نبي كريم مكلم كلمه الله سبحانه, أنه أكل من الشجرة التي نهي عنها وعصى ربه فغوى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:١٢٢].

وذكر عن كليمه موسى عليه السلام أنه قتل نفساً بغير نفس, وأن الله جل وعلا تاب عليه، وهكذا حتى أشرف الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه، خاطبه الله جل وعلا بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:١ - ١٠].

هب أن أحداً من الناس يخاطب بمثل هذا الخطاب، يقال له: إنك عبست وتوليت لما جاءك فلان وهو تقي, ربما يغضب ويقول: أنت ما تقدرني، أنت ما تعرف تخاطبني، هذا رب العالمين جل وعلا يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب.

وكذلك يقول له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:١]، يخاطبه بهذا الخطاب، وكثير من الناس لو يواجه ويقال له: اتق الله يا فلان! اتق الله، لقال مستنكراً: ماذا صنعت أنا؟ هل أنا فعلت ذنباً؟ المقصود أن الله جل وعلا يؤدب رسوله صلى الله عليه وسلم بالقرآن تأديباً فيه شيء من التنبيه.

كذلك يقول جل وعلا في خطابه له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣]، وهذا إنكار.

كذلك قوله جل وعلا: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٦٨] الكتاب السابق أنكم لا ينزل عليكم العذاب، وهذا بسبب أخذهم الفداء من أسرى أهل بدر الكفار، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو نزل علينا عذاب لم يفلت منا إلا عمر)؛ لأن عمر اعترض وقال: (أرى أن تمكن كل واحد منا من قريبه فيضرب عنقه).

والرسول صلى الله عليه وسلم رأى ما في أصحابه من الحاجة والتعب؛ فرحمهم وأخذ الفداء من أجل أن يكون ذلك نفعاً لهم، فنزل عليه العتاب صلوات الله وسلامه عليه.

وقال الله جل وعلا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:١ - ٢]، ويقول بعض المفسرين: ليغفر الله لأمتك ذنوبها المتقدمة والمتأخرة، أما هو فليس عليه ذنوب، وهذا تحريف, بل هذه مغالطة.

وكذلك قوله جل وعلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:١ - ٣].

قال بعضهم: واستغفره لذنوب أمتك, أما أنت فليس عليك ذنوب، وهؤلاء بعضهم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم قريباً من منزلة الله جل وعلا، حتى إن بعضهم يقول في مثل هذا: إن هذا ليس خطاباً له، وإنما هو خطاب لأمته، ولكن لما كان الوحي ينزل عليه وجه إليه، يقول: الخطاب لأمته.

هذا شيء عجيب! يعني: كأنها مغالطة ورد لقول الله جل وعلا.

الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: (استغفروا الله وتوبوا إليه, فإني أتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة)، ويقول الصحابة: (كنا نحسب له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، يقول: أستغفر الله وأتوب إليه, أستغفر الله وأتوب إليه) وليس هناك أحد غني عن ربه جل وعلا، كما أنه ليس بين الله جل وعلا وبين خلقه صلة إلا بالطاعة، من كان لله أطوع فهو أكرم عند الله, وأقرب إلى الله, بغض النظر عن كونه فلاناً أو من فلان أو غيره.