[سبب نزول قوله تعالى: (لو كان لنا من الأمر شيء)]
أما الآية التي ذكرها المؤلف، وهي قوله جل وعلا: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:١٥٤].
فالآية نزلت في قصة أحد كما هو معلوم من سياق الآيات، والآيات كلها في قصة أحد، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بألف مقاتل من أهل المدينة، وفي أثناء الطريق بين أحد والمدينة رجع عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ورجع معه ثلاثمائة من الذين تأثروا به، وقال: يطيع أمر الصبيان -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- ويترك رأيي ورأيه! لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى أن يبقى المسلمون في المدينة ولا يخرجون، ولكن ألح عليه بعض الصحابة الذين تخلفوا عن وقعة بدر طلباً للشهادة، وكانوا يحبون لقاء العدو، فألحوا عليه وطلبوا أن يخرج بهم إلى العدو، وكان يشير عليهم أن يجلسوا في المدينة، فإن دخلوا عليهم قاتلوهم في الطرقات والنساء ترميهم من فوق السطوح، وكان هذا هو الرأي الذي يكون موفقاً في ذلك الوقت، ولكن أمر الله لابد من نفاذه.
فلما أكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيته ولبس سلاحه، ثم لام بعضهم بعضاً وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما ينبغي لنا ذلك.
فلما خرج قالوا له: يا رسول الله! إن شئت أن نبقى بقينا فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه).
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه، وفي أثناء الطريق رجع عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش من أصحابه وبقي بعضهم، فهؤلاء هم الذين قالوا: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:١٥٤]، فهم يعترضون على ما وقع، وذلك أنه -كما هو معلوم- لما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي فيه القتال وزع الجيش، ووضع سبعين من الرماة على الجبل -وهو يسمى الآن جبل الرماة- وقال: انضحوا عنا الخيل ولا تعدوا مكانكم حتى أرسل إليكم، وإياكم أن تتركوا المكان قبل أن أرسل إليكم ولو رأيتمونا تخطفنا الطير.
يعني: لو رأيتمونا نقتل فلا تعدوا مكانكم وهذا تأكيد.
فلما بدأ القتال ما هي إلا ساعة من نهار حتى انهزم الكفار أمام المسلمين، والمسلمون خلفهم يقتلون ويأخذون ما يأخذون، فلما شاهد الرماة ذلك قالوا: علام نجلس هنا وقد انهزم الكفار؟ ما لجلوسنا هذا فائدة فذكرهم أميرهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا أن يطيعوه، ولحقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع المسلمين ليأخذوا من الغنائم، فجاءت خيل المشركين وكانت بقيادة خالد بن الوليد -قبل أن يسلم- من خلف المسلمين، فقُتِل من المسلمين سبعون رجلاً، وجرح من جرح، وجُرح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الذي أخبر الله جل وعلا به فقال: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:١٥٢] يعني: حصل ذلك بسبب الفشل والتنازع ومعصية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فحصل ما حصل من قتل، فلما قتل من قتل.
قال هؤلاء: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:١٥٤].
ومعلوم أن هذا شيء مقدر مكتوب قبل خلق السموات والأرض، وأن الشيء إذا وقع يجب أن ينقاد له المؤمن ويؤمن به ويسلم لله جل وعلا، وأن يقول (إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل).