للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جعلهم الأمور الغيبية الخاصة بالله لغيره]

الأمر الثاني: أنهم جعلوا الأمور الغيبية التي هي محض حق الله لهذا المخلوق المسكين الذي لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الدود الذي يأكل لحمه، فهذا من الشرك الذي يجعل الإنسان إذا مات عليه من المشركين.

فهو أراد أن يبين هذا الشيء بالنذر فأثبت أولاً أن النذر عبادة في ذكر الآيات كقوله جل وعلا: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:٧] الآية تدل على الثناء على هؤلاء؛ لأنه لما ذكر أن: {الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:٥ - ٦] يعني: هذه التي تمزج للأبرار تخلط لهم خلطاً يشربها أولئك الأبرار خالصة ليس فيها كدر.

ثم ذكر الثناء عليهم، فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) يعني: كان هذا عملهم في الدنيا، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:٧ - ٨] إلى آخره.

والله جل وعلا لا يثني على أحد إلا على فعل الواجب أو المستحب، أو ترك المحرم والمكروه، ولا يثني على أحد بكثرة أكله أو كثرة نومه أو ما أشبه ذلك، فالشيء الذي ليس عبادة لا يثني الله جل وعلا على الإنسان به، وإنما يثني عليه بما هو عبادة.

وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:٢٧٠] ومعنى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} في ضمنه الجزاء أي: أنه في علم الله مدخر لكم، وسوف يجازيكم عليه.

وكذلك قوله جل وعلا: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:٢٩] أمر بالوفاء بالنذر، والله لا يأمر بشيء مباح، وفي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون) فهذا من القدح فيهم، (ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن) يعني: أنهم يرغبون في الدنيا أكثر، فيظهر السمن فيهم؛ لكثرة المشتهيات وكثرة المأكولات، ونحو ذلك.

المقصود أنه بيّن أن من أوصافهم التي يذمون عليها أنهم لا يوفون بالنذر؛ فدل على أن النذر عبادة، وأن الوفاء به مطلوب، فإذا كان الوفاء به مطلوباً فهو عبادة، فإذا تبين أنه عبادة فصرفه لغير الله جل وعلا يكون شركاً بالاتفاق، فصرف العبادة التي أوجب الله جل وعلا فعلها وأثنى على فاعلها لغيره يكون شركاً، هذا أمر متفق عليه، وهذا هو وجه الاستدلال بالآيات.