للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تعظيم النبي لا يكون بدعائه]

قال الشارح رحمه الله: [وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكي في قوله: إن المبالغة في تعظيمه -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم - واجبة: إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً، حتى الحج إلى قبره، والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء؛ فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين].

يجب أن يكون التعظيم على حسب الشرع الذي أمر الله جل وعلا به، فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجب، ولكن ليس بدعوته وعبادته والاستغاثة به، وإنما هو في تعظيم أمره، وتعظيم قدره، وكما أمر الله جل وعلا بطاعته واتباعه، فهذا هو تعظيمه، فيطيعه ويتبع سنته، ويدعو الخلق إلى دينه الذي جاء به، ويجتهد في ذلك، هذا هو الذي يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يأمر به، أما أن يستغيث به أو أن يدعي له ما هو ملك لله فلا، كمن يقول: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً، وإلا فقل: يا زلت القدم وما أشبه ذلك، فيكون هو المدعو وهو المستغاث به، فهذا في الواقع تعظيم على خلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يوقع في الشرك، يقول محمد بن عبد الهادي رحمه الله: ليس للإنسان أن يعظم النبي عليه الصلاة والسلام على حسب نظره، وعلى وفق هواه، بل يجب أن يكون متقيداً بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في قوله وفي فعله، وفي جميع ما يرجو ثوابه ويخاف عقابه، بمعنى: أن كل عبادة يجب أن يكون العابد فيها متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر متفق عليه، ولا خلاف فيه بين العلماء.

أما الذي يخالف في هذا فلا يعد من العلماء في الواقع، فكل العلماء يقولون: إن العبادة لها شرطان: أحدهما: أن تكون على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون الإنسان متبعاً فيها.

الثاني: أن تكون خالصة لله جل وعلا، فإذا تخلف واحد من هذين الشرطين في العبادة فهي مردودة غير معتبرة.

والإنسان يقدم الشرع على هواه، ويجب أن يكون متقيداً بالشرع.

قال الشارح رحمه الله: [وفي الفتاوى البزازية -من كتب الحنفية-: قال علماؤنا: من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم: يكفر].

يعني: بأرواح المشايخ: الأموات، ويعتقد بعد موتهم أن أرواحهم حاضرة عند الإنسان تعلم ما يقول وما يفعل، فمن قال هذا فهو كافر؛ لأنه ادعى ما لله جل وعلا لغيره من المخلوقين.

ومن المعلوم أن الأموات أضعف من الأحياء؛ لأن الحي يستطيع أن يتصرف، يستطيع أن يذهب ويأتي، ويستطيع أن يعمل، أما الميت لا يستطيع شيئاً، قد انتهى أمره، وأصبح مرتهناً بعمله، كما قال الله جل وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:٣٨].

وأخبر جل وعلا أن نفس الميت ممسوكة عنده، فالله يمسك من يتوفاهم كما في القرآن، أما كون الميت يسمع من يسلم عليه إذا جاء إلى قبره، فهذا لا يدل على أنه يستطيع أن يجيبه أو يستطيع أن يسأل له، أو يستطيع أن ينفعه، فأمر الموت أمر غيبي لا نعرفه، ولا نعرف حقيقته، ولكن قريب منه النوم، والإنسان في نومه لا يتصرف ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، وإن كان يرى أنه يفعل شيئاً فهو في الواقع لا يفعل، والنوم نوع من الموت؛ ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: (أينام أهل الجنة؟ قال: لا)؛ لأن النوم قسم من الموت، وأهل الجنة لهم الحياة الكاملة، لا ينامون، وإذا كملت الحياة فلا يحتاج الإنسان إلى نوم، وإنما يحتاج إلى النوم ما دام ضعيفاً، وما دامت حياته ناقصة.

والمقصود أن دعوى: أن الميت يعلم أو يتصرف! من اعتقد ذلك أو قال به فهو على خطر عظيم، بل هو على شفا جرف هار في نار جهنم -نسأل الله العافية-.

وكون الميت يسمع لا يدل على أنه يتصرف، ولا يدل على أنه ينفع، وقد جاء في الحديث الصحيح: لما رُمي كبار الكفار من قريش في بئر بدر، وجاء عليهم ثلاثة أيام، فالرسول صلى الله عليه وسلم ركب راحلته، وقام على البئر، وصار يناديهم بأسمائهم: (يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني وجدتُ ما وعدني ربي حقاً؟! فقال له أصحابه: يا رسول الله! ما تنادي من قوم قد جيَّفوا؟ -يعني: صاروا جيَفاً أمواتاً لا حراك لهم ولا حياة فيهم- قال لهم: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، إلا أنهم لا يستطيعون الإجابة) فبيَّن أنهم يسمعون ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا، ومناداته لهم وكلامه لهم من باب التبكيت والتهديد والتعذيب والتقريع، يقرعهم بذلك حيث كفروا بالله جلَّ وعلا بعدما جاءتهم البينات.

وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضع الميت في قبره وولى عنه أصحابه، وهو يسمع قرع نعالهم -يسمع قرع نعالهم! - أتاه الملكان) إلخ، فكونه يسمع: أمرٌ لا نعرف حقيقته، ولكن نعلم علماً يقينياً بأنه لا يتصرف، ولا يملك شيئاً، ولا ينفع الداعي إذا دعاه، ولا يستطيع أن يشفع له، أو يقربه إلى الله، أو يكون واسطة له عند الله؛ لأن الشرع بين هذا وأوضحه غاية الإيضاح، فالذي يخالف في هذا، ويعتقد غير هذا لا عذر له بعد البيان والإيضاح الكامل من ربنا جلَّ وعلا، ومن رسولنا صلى الله عليه وسلم.