للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إنكار القدر من ظن السوء بالله جل وعلا]

[وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمته وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يجب وإن كانت مكروهة له].

يريد أنه يرد على بعض أهل الكلام، مثل الأشاعرة الذين يقولون: إن الله يفعل بمقتضى مشيئته فقط، وليس هناك حكمة.

وينكرون الحكمة على ضوء مذهبهم الفاسد، ويقولون على مقتضى ذلك: يجوز أن يعذب الله المؤمن الذي أفنى حياته بطاعة الله ويجوز أن يجعله في النار، ويجوز أن يجعل الكافر الذي أفنى حياته في معاصي الله وفي محاربة الله أن يجعله في الجنة، مع أن الله جل وعلا ذكر ذلك في كتابه صريحاً فقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:٣٥ - ٣٦]، فالله جل وعلا ينكر هذا، ويبين أن هذا لا تقتضيه حكمته، بل حكمته على خلاف ذلك.

ثم يفسرون الظلم الذي نفاه الله جل وعلا عن نفسه كما قال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:٤٦] بأنه هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه وبغير حق، وكل شيء ملك لله، فإذا صرفه بمقتضى مشيئته فلا يكون ظلماً، وهذا التفسير خطأ، والتفسير الصحيح للظلم هو أنه وضع الشيء في غير موضعه فالله جل وعلا يضع الأشياء في موضعها، كما قال جل وعلا: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤]، وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:٦٨]، فهو جل وعلا اختار على مقتضى حكمته أن يضع الأشياء في مواضعها تعالى الله وتقدس.

فما قدرها سدى ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلاً: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:٢٧]، وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حكمته وحمده، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوى بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء].

القنوط هو شدة اليأس، فإذا كان الإنسان -مثلاً- يعمل ذنوباً كثيرة وكبيرة ثم يقول: لا مخرج لي من ذلك ولا يغفر لي فهذا هو القنوط.

ولماذا يكون مثل هذا ظن سوء بالله؟

الجواب

لأن الله جل وعلا غفور رحيم، وعفو كريم، وليس هناك ذنب لا يغفره الله إذا تاب الإنسان منه، كما قال جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣]، فلم يستثن شيئاً.

أما الآية الأخرى التي فيها استثناء الشرك فهذا في الذي يموت ولم يتب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨] يخبر الله جل وعلا أنه لا يغفر له إذا مات مشركاً، أما ما عدا الشرك فهو تحت مشيئة الله جل وعلا وإن مات عليه مصراً، فإن شاء الله أن يعفو عنه عفا، وإن شاء أن يعذبه عذبه.

[ومن ظن أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء].

لأن هذا أيضاً على خلاف مقتضى حكمته وعدله، أما الحكمة فإن الله رتب الإنسان ترتيباً حسناً، ثم بعد ذلك يهدم هذا الترتيب وينتهي، وذلك ليعاد إعادة أكمل من هذه وأتم، هذا من ناحية الخلق، أما من ناحية العدل فإن الناس -كما هو واقع- يشاهدون الظالم يظلم ظلماً ظاهراً ثم لا يؤخذ الحق منه، ويموت هذا ويموت هذا، وهذا يقع كثيراً، ولا يمكن أن يترك هذا، بل بل لابد من موقف بين يدي الله يؤدى فيه الحق إلى صاحبه، ولابد من البعث حتى يقتص للمظلوم من الظالم، ولهذا جاءت الأحاديث تبين أن البهائم يقتص منها فكيف العقلاء؟! فالبهائم تتناطح بقرونها بعضها يكون له قرون وبعضها أجم ليس له قرن، فتبعث يوم القيامة ليُقتص لبعضها من بعض، ثم إذا أعطي صاحب الحق من البهائم حقه يقول الله جل وعلا لها: كوني تراباً.

لأنها ليس لها ثواب ولا جزاء، ولكن العدل اقتضى أنه يقتص من الظالم للمظلوم وإن كان بهيمة.

وأما العقلاء المكلفون الذين خلقوا لعبادة الله فلا بد من القصاص، ثم كذلك الأعمال، تجد هذا يعمل جاهداً في طاعة الله مجتهداً وهذا يعمل جاهداً في معاصي الله، ثم يموتان وما لقي هذا الجزاء ولا لقي هذا الجزاء وهو الجزاء الأوفى، وإلا فنعمة الطاعة والأنس بالله من أكبر النعم، فلابد من بعث، ولابد من دار يتم فيها الجزاء كما أخبر الله جل وعلا.