للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى الاستعاذة]

قال الشارح: [الاستعاذة: هي الالتجاء والاعتصام، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذاً وملجأً، فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه، واعتصم واستجار به والتجأ إليه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله والاعتصام به والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل له، أمر لا تحيط به العبارة، قاله ابن القيم رحمه الله].

يعني: أن الإنسان إذا انطرح بين يدي ربه جل وعلا، وعرف حقه، وأصبح ينزل كل حاجاته بالله وحده، فإنه يستغني به عن كل من سواه، ويرتفق بهذا، ويفرح فرحاً عظيماً لا يوازيه فرح الدنيا؛ لكونه عرف ربه وعبده واعتصم به ولجأ إليه، وأصبح غنياً بالله جل وعلا عن كل ما سواه، والحقيقة أن هذا هو العز المطلق، والغنى المطلق.

أما أن يكون له عز ظاهر في الدنيا، وهو منقطع عن الله؛ فهذا سوف يذهب، ولا ينفعه، وكذلك إذا كان له غنى ظاهر وهو مستغنٍ عن الله فسوف يذهب غناه ويعود فقراً، كما حكى الله جل وعلا عن الذي يؤتى كتابه بشماله يوم القيامة: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٤ - ٢٨] كان له سلطان، وعنده مال، ولكن أصبح ماله وسلطانه عليه وبالاً، وذلك لأنه استغنى عن الله بسلطانه في الدنيا، ولأنه اعتز بذلك على عباد الله، وتطاول عليهم.

فالمقصود أن العبد لا غنى له عن ربه جل وعلا طرفة عين، فيجب أن يكون مفتقراً إليه دائماً، ويجب أن يكون لاجئاً إليه دائماً، عائذاً به، معتصماً به من شر نفسه أولاً، ومن شر الخلق الذين فيهم الشر، ومن شر كل ما فيه شر، وإذا عرف الله جل وعلا ذلك من نيته وقصده فسوف يعيذه وسوف يحميه من كل ما يؤذيه.

قال الشارح: [قال ابن كثير: الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله، والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر.

والعياذ يكون لدفع الشر، واللياذ لطلب الخير.

قلت: وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده، كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:٢٠٠]، وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:١] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:١] فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة، فمن صرف شيئاً من هذه العبادات لغير الله فقد جعله شريكاً لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابداً لغير الله ولا فرق، كما سيأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى].

وذلك أن الله جل وعلا أمر بالصلاة له، وكما أمر بالصلاة له أمر بالاستعاذة به، والاستعاذة تكون عامة في كل ما لا يقدر الإنسان على صده عن نفسه سواء كان حسياً أو معنوياً، أما إذا كان حسياً فقد يستعيذ الإنسان بمن يقدر أن يصده إذا كان قادراً حاضراً سامعاً، أما إذا كان معنوياً فلا يجوز الاستعاذة إلا بالله جل وعلا.

ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن الطريق للتخلص مما هو مشاهد بالإحسان إليه، بأن تحسن إليه حتى تصبح محبوباً لديه، وتصبح متخلصاً من أذاه، وأما الشيطان الذي لا تشاهده، ولا تراه، فأمر الله جل وعلا أن يستعاذ به، فقال الله جل وعلا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:٣٤] يعني: إذا وقعت بينك وبين إنسان عداوة فادفع هذه العداوة بالإحسان إليه، فإنه سوف يعود عليك بالمودة، وتذهب عداوته، ولكن الشيطان الذي لا تنظر إليه، ولا تراه ليس هناك طريق للتخلص منه إلا بأن تلجأ إلى الله، وتعتصم به، قال الله بعد هذه الآية: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت:٣٦]، هذا هو الطريق الوحيد للتخلص من الشيطان.

والاستعاذة جاء الأمر بها مطلقاً كما سمعنا في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:١] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:١] وهذا قول قيل للنبي صلى الله عليه وسلم خاص به، والأمة تبع له في ذلك، يعني: الخطاب خصص للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته تبع له في ذلك، فيجب عليهم أن تكون استعاذتهم بالله وحده.