[أنواع التوحيد]
قال الشارح رحمه الله: [وروى ابن جرير عن قتادة: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:٢٦ - ٢٧] قال: كانوا يقولون: إن الله ربنا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧] فلم يبرأ من ربه.
رواه عبد بن حميد.
وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:٢٨] قال: الإخلاص والتوحيد، لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده].
هذا أمر اتفق عليه الخلق كلهم، كونهم يقرون بأن الله ربهم، ولكن اختلفوا في كونهم يعبدون معه غيره، أما إقرارهم بأنه هو الذي يخلقهم وهو الذي يرزقهم وينعم عليهم، وإذا وقعوا في شدة يجيب دعوتهم ويكشف الشدائد عنهم فهذا أمر اتفق عليه جميع الخلق، وما شذ عنه إلا شواذ الناس الذين فسدت عقولهم وأصبحت عقولهم مغطاة بالتقليد الأعمى الذي وجدوا عليه الضلّال، وهذا لا يفيد شيئاً، كون الإنسان يقر بأن الله ربه وخالقه وأنه المحيي المميت المتصرف ما يفيد شيئاً حتى تضاف إليه عبادة الله وحده بالأمور التي تصدر من الإنسان، ومن هنا قسم العلماء التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة أقسام، فيجوز أن نقول: إنه ينقسم إلى قسمين.
ويجوز أن نقول: إنه ينقسم إلى ثلاثة: توحيد أفعال الله جل وعلا، أي: الأفعال التي تصدر منه، مثل الخلق والرزق وإنزال المطر والإحياء والإماتة، وكل ما يتصرف الله جل وعلا به فإنه ينفرد به، وهذا الشرك فيه قليل، وإنما وقع الشرك فيه من أفراد من الناس إما عناداً وتكبراً، أو جهلاً قد غطى على العقل تماماً، كما وقع في بعض هذه الأمة.
أما العناد فمثل ما وقع من فرعون، حيث قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨] وقال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤] فهذا تكبر، وإلا فهو يعلم يقيناً أن الله ربه وهو خالقه، ولكنه يريد أن يموه على الناس لأنه في منصب يخوله ذلك ويدعوه إلى الكبر ويجعل الناس يتبعونه، فلهذا استولى على قومه فأطاعوه في الباطل وهم يعلمون أنه باطل، وهو نفسه قد أخبر الله جل وعلا أنه استيقن الآيات أنها من عند الله -استيقنتها أنفسهم- ولكنه دعاهم إلى الظلم والعلو، كما قال فرعون ووزراؤه وخبراء دولته الذين يساعدونه على ذلك، ومع ذلك لما عاين العذاب وعاين مصيره الأخير من حياته قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:٩٠] لكن هذا لا يفيد شيئاً، لهذا قال له الملك: {أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:٩١] تؤمن الآن؟ ما ينفعك: {أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:٩١] يعني: في هذا الوقت ما ينفعك الإيمان، أنت أصبحت في عداد الأموات، ومن كان بهذه المثابة لا يفيده الإيمان.
أما النمرود فهو مثله تكبر أيضاً وقال: إنه ربهم لما قال له إبراهيم عليه السلام: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:٢٥٨] عجيب كيف يحيي ويميت ويخلق من العدم حياً؟! ما يستطيع، لكن يريد أن يموه على الناس، فقال: أنا آتي برجلين فآمر بهذا فيقتل، وهذا الموت، وآمر بهذا فيترك، وهذه هي الحياة.
وهذه مغالطة، ومع ذلك لما رأى إبراهيم هذه المغالطة جاءه بشيء لا يستطيع أن يخرج منه، ولا يستطيع أن يغالط فيه، قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٢٥٨] إن كنت صادقاً اعكس مسيرها: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:٢٥٨] يعني: ما استطاع أن يجيب بشيء.
وهكذا الكفرة والظلمة وهؤلاء الذين ذكر عنهم أنهم ادعوا أنهم هم الذين يتصرفون مع الله وأنهم شركاء له في التصرف، وهذا شذوذ في الخلق، وشذوذ في التفكير والنظر والادعاء والعناد والتكبر، أما سائر الخلق فكلهم يقرون بأن الله هو الرب الخالق المحيي المميت المتصرف في الكون كله، وأنه لا شريك له في ذلك، ولهذا يقول الله جل وعلا مخاطباً الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:٢١]، ففي هذا أمر يقرون به، وهو أنه هو الذي خلقهم وخلق الذين قبلهم، لا أحد ينكره، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة:٢١ - ٢٢] وأيضا يقرون أن الذي خلق الأرض وجعلها ممهدة يستطيعون الاستقرار عليها والمشي على متنها وحرثها والتصرف فيها مما ينفعهم هو الله، الله الذي جعلها بهذه المثابة وجعلها لهم فراشاً، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:٢٢] يعني: رفعها فوقهم يشاهدونها، وهذه السماء هي التي نشاهدها فوقنا، وليست كما يقول الكفار اليوم، فالكفار اليوم ينكرون السماء، ويقولون: إنما هو الفضاء، فيعبرون بالفضاء عن العلو، ويقولون: إن هذه الزرقة من إفرازات الأبخرة والأثير وما أشبه ذلك.
وهذا كفر بالله جل وعلا، فالله جل وعلا يقول لنا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:٦] يأمرنا بالنظر إليها والاعتبار بها، ويأمرنا بأن نرجع البصر فيها ونكرره، وأننا إذا كررناه يعود إلينا خاسئاً وهو حسير، وكذلك يخبرنا بأنه هو الذي رفع السماء بلا عمد نراها فوقنا، فهذه هي السماء، ولكن لشدة بعدها ما ترى إلا لمن يكون على الأرض، أما إذا ارتفع الإنسان إلى جهتها ذهبت هذه التي ترى، وفي حديث جابر أن الميت إذا مات وخرجت روحه أن الملائكة تتولاها وتصعد بها، فإن كان مؤمناً استفتحوا لها باب السماء ففتح، وإن كان كافراً أو فاجراً أغلقت دونه أبواب السماء، ثم يقال لهم: (اطرحوها طرحاً) من السماء الدنيا، فتطرح طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:٣١]، ومع ذلك لا تضيع الروح، وإنما تأتي إلى الجسد وتكون فيه فتذوق العذاب الأليم مع الجسد، كما أن روح المؤمن تنعم مع جسدها.
فالمقصود أن الله جل وعلا يخبرنا أنه هو الذي خلق الأرض وبنى السماء وجعلها لنا بناء، وأنزل من السماء ماء، والسماء يطلق على السماء المبنية التي هي السبع السموات، ويطلق على كل ما فوقنا، فكل ما فوقنا فهو سماء، ولهذا قوله: {وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:٢٢] لا يلزم أن يكون المطر ينزل من السماء المبنية بل ينزل من فوق، فالله يخلقه بين السماء والأرض.
فهكذا يقرر الله جل وعلا للناس: {وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢] يعلمون ماذا؟ يعلمون أن الله هو المتفرد في خلق هذه الأمور المذكورة، هؤلاء المشركون يعلمون هذا يقيناً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:٨٧] في آيات كثيرة.