للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[النصوص الدالة على الاستواء وما ورد عن السلف في ذلك]

قال رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:٢]].

(ترونها) هنا تكميل لما سبق، يقول جل وعلا: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:٢]، واختلف المفسرون في رجوع الرؤية هل إلى السماء أو إلى العمد؟ والصواب أنها إلى السماء، فبعضهم يقولون: على عمد ما ترى، وهذا ليس بصحيح، وهي غير مقصود، بل الصحيح: أنها أمسكت السماء بدون أعمدة، فأنتم ترون أن السماء ثابتة أمسكت بقدرة الله جل وعلا، وتعرفون أنكم إذا أردتم أن تبنوا بناء لابد أن يعتمد على أعمدة، فالمقصود هنا: الإخبار عن قدرة الله جل وعلا، وهنا يقول: (ترونها) يعني: نرى السماء بدون أعمدة.

قال رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٤ - ٥]، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:٥٨ - ٥٩]، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:٤ - ٥]، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:٤]، فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته.

وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:١٦ - ١٧]، وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢]، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:١]، وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:٣٦ - ٣٧]].

هذه الآية وجه الاستدلال بها هو أن موسى عليه السلام أخبر فرعون أن الله في السماء، وجاء بهذا في الشرع الذي جاء به إلى الناس، وكلفهم قبوله والإيمان به ولهذا قال فرعون -يلبس على الناس- لوزيره هامان: ابن لي صرحاً سأصعد فيه فأنظر هل موسى صادق أو كاذب.

ولهذا قال: ((إني لأظنه كاذباً)) يعني: في الخبر تلبيس.

وهكذا المجرمون يفعلون ويُقابلون الرسل بالتكذيب وأنهم جاءوا بما يخالف الواقع.

قال الشارح رحمه الله: [وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين.

فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله وعليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان والجحود به كفر.

رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح].

معنى قولها: (الاستواء غير مجهول) أي: معلوم في اللغة، فمعلوم لغة أن الاستواء هو العلو على الشيء، والارتفاع على الشيء، ولا أحد يجهله.

وأما قولها: (الكيف غير معقول) فالكيف المقصود به: كيفية الاستواء، وتعني به الهيئة التي كان عليها لما استوى.

وهذا ما هو معقول، بل هذا يتطلب المشاهدة والرؤية، والرؤية غير واقعة، فالكيفية غير معلومة للخلق، ولا أحد يطلع عليها.

وقولها: (والإقرار به إيمان) تعني: أن هذا جاء في الشرع، وتكاثر في الشرع، فإذا أقر به الإنسان فهو مؤمن بما جاء به من عند الله، وإنكاره كفر، وهكذا جاء عن الإمام مالك رضي الله عنه وعن شيخه ربيعة، كلهم قالوا هذا القول، وكذلك يُقال في جميع صفات الله جل وعلا.

فلو قيل لك: كيف يده؟ نقول: اليد معلومة، وردت في الشرع فيجب الإيمان بها، أما الكيف فالكيف ما نعلمه؛ لأن الكيفية تتطلب المشاهدة والرؤيا، وهكذا السمع والبصر والرجل وغير ذلك، كلها نقول فيها هذا القول.

قال رحمه الله تعالى: [وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال: لما سئُل ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق].

وهذا معناه أن الاستواء معلوم غير مجهول، والكيف غير معلوم، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق والقبول، أي: نقول: إن هذا شيء ورد في الشرع فيجب علينا أن نقبله، والرسول بلغه عن الله جل وعلا، فلا يجوز أن نعترض عليه بشيء لا تدركه عقولنا، فعلينا أن نؤمن بظاهر النصوص على ما نتعارف عليه، أما الكيفية فنكلها إلى الله جل وعلا.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال ابن وهب: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء، وقال: (الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يُقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة، أخرجوه) رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضاً ولفظه قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)].

معنى قوله: (وأخذته الرحضاء) الرحضاء: العرق، يعني: صار يتصبب عرقاً؛ لأن هذا أمر ليس بسهل، يسأله عن قوله تعالى: ((الرحمن على العرش استوى)) كيف استوى؟ والكيفية ما هي معروفة للناس حتى يسأل عنها، ولهذا أنكر عليه الإمام مالك رضي الله عنه وقال: أخرجوه.

لأنه صاحب بدعة، فأخرجوه من مجلسه بعدما أجاب الجواب الصحيح السديد الذي يجب أن يكون أصلاً نتبعه ونسير عليه في كل شيء، قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول.

يعني: ما هو معلوم للخلق، ولا يُعقل أنهم يعلمونه؛ لأنه أمر غيبي، ثم أخبر أن الإيمان بالاستواء واجب، وأن السؤال عن الكيفية بدعة، فما يسأل عنها إلا مبتدع، وهكذا يُقال في جميع صفات الله جل وعلا.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفكيك، ونفوا عنه الكيفية، قال البخاري في صحيحه: قال مجاهد: (استوى: علا على العرش)].

هذا تفسير (استوى) بأنه علا، وكذلك جاء تفسيره أيضاً بأنه صعد، وجاء تفسيره بأنه ارتفع، وجاء تفسيره بأنه استقر، أربعة ألفاظ فقط هي التي جاءت عن السلف في تفسيرهم للاستواء: العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار.

وكلها رويت بالأسانيد عن السلف، وهي بمعنى الاستواء، ولكن قد يكون إنسان عنده لفظ العلو أوضح من لفظ الاستواء، وآخر قد يكون عنده لفظ الصعود أوضح من لفظ الاستواء، فيفسرون بحسب حال السامع حتى يفهمونه.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول (الرحمن على العرش استوى) أي: ارتفع.

وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] أي: علا وارتفع.

وشواهده بأقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم، فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا].

يقصد بالملائكة الشداد حملة العرش الذين أخبر الله جل وعلا أنهم يحملونه، وأخبر أنه من الملائكة من يحف بالعرش ويطوف به ويسبح لله جل وعلا، ويعبده، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:٧].

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية].

والجهمية سموا بذلك نسبة لرجل اسمه الجهم بن صفوان أنكر صفات الله جل وعلا، وصار إماماً فيها بالكفر والإلحاد -نسأل الله السلامة-، وهو الذي يقول عن فرقته الإمام عبد الله بن المبارك: إننا لنحكي قول اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نح