القسم الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس
قال تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}[آل عمران:١٧٣] وسبب نزول هذه الآية، كما قال ابن إسحاق وغيره من العلماء: أنه لما صارت واقعة أحد يوم السبت في منتصف شوال، ثم كان يوم الأحد في السادس عشر من شوال نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهاب خلف قريش، وأنه لا يذهب خلفهم إلا من حضر الواقعة بالأمس؛ لأن الذين تخلفوا منافقون لا يحضرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا خير فيهم ولا في حضورهم؛ فانتدب لها المسلمون فقط، وكان فيهم الجراحات والآلام؛ حتى إنه جاء أن أخوين من بني عبد الأشيم كان فيهم جراحاً كبيرة، فيقول أحدهم: فخرجت أنا وأخي وقلت: لا تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا عجز حملته عقبة - يحمله على ظهره إذا عجز عن المسير - فساروا إلى أن بلغوا حمراء الأسد، فلما جاءوها ألقى الله جل وعلا الرعب في قلب أبي سفيان ومن معه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنده، فخافوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يلحقهم، فلقيهم ركب يريدون المدينة ليشتروا منها طعاماً، فقال أبو سفيان لهم: بلغوا عني محمداً وأبدلكم رحائل جديدة يوم عكاظ، قالوا: نعم، قال: قولوا له: إن أبا سفيان يجمع لك الجموع، وأنه أسف على ترك المدينة، فإنه يقول: لا محمد قتلنا ولا الكواعب أردفنا، فقالوا: نعم، فمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأخبروهم بهذا الخبر، فقالوا الصحابة: حسبنا الله ونعم الوكيل، أي: هو كافينا ولن نخاف هؤلاء، فنزلت الآية:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ}[آل عمران:١٧٣ - ١٧٥]، والمعنى: أن الشيطان يخوفكم بالكفار، فالخوف الذي يلقى في قلب المؤمن من الكفار من جراء تخويف الشيطان، والواجب أن يكون الخوف من الله وحده.
وهذا الخوف محرم؛ لأنه ترك ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس، وهو أيضاً نقص في الإيمان؛ لأنه نفث من الشيطان، ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد وغيره أن الله جل وعلا يقول للعبد يوم القيامة:(ألم تر منكراً فلم تغيره ولم تنه عنه، فيقول: يا رب! خفت الناس، فيقول: إياي أحق أن تخاف)، وهذا السؤال سؤال عن واجب تركه، وقد يعاقب عليه.
وهذا النوع أقل من الذي قبله، أما الذي قبله فهو شرك أكبر، أما هذا فقد يصل بالإنسان إلى الشرك وقد لا يصل به إلى الشرك، ويكون قد ترك واجباً، إذا حمله خوف الناس على ترك الواجب، وهو نقص في توحيده وإيمانه، ويخشى أن يعاقب على تركه هذا الواجب.