للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تبرؤ الكفرة من بعضهم يوم القيامة]

قال الشارح رحمه الله: [وتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:٢٥].

قال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة:١٦٦]: فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومناهجهم، وهم مخالفون لهم سالكين غير طريقهم، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم؛ فيتبرءون منهم يوم القيامة؛ فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله.

وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وليجة وأولياء؛ يوالي لهم، ويعادي لهم، ويرضى لهم ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه.

إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وانتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله، وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه، وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله، وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجريداً محضاً بريئاً من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلاً عن الشرك بينه وبين غيره، فضلاً عن تقديم قول غيره عليه.

فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة التي بين العبد وربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي آخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم وما عرفت إلا بهم، ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم، وقد قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣]، فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه يجعلها الله هباءً منثوراً، لا ينتفع منها أصحابها بشيء أصلاً، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه ضائعاً، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم.

انتهى ملخصاً].

معنى الآية: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) يقول: هؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، والتابعون كانوا على الضلالة، والآية أعم من هذا: فإذا كان المتبع على الهدى فإنه لا يرضى أن يكون تابعه يتبعه وهو على ضلالة، وفي الحقيقة أنه ليس تابعاً له وإنما هو تابع لهواه ونفسه، وإنما الآية ظاهرها: أن الكفار وعوامهم يتبرءون من سادتهم وقادتهم؛ لأنهم أتباعهم، ويتمنون أن يكون لهم رجعة فيتبرءون منهم، وكل واحد من الفريقين يتبرأ من الآخر، ويكفر به، فالآية نظير الآية التي في سورة العنكبوت وغيرها، يعني: أن كل رئيس في معصية الله، وكل من هو مرءوس؛ يصبح هذا عدواً للآخر متبرئاً منه، كما هو صريح قوله جل وعلا: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:٢٥]، كل واحد يكفر بالثاني، وكل واحد يلعن الثاني، وليس بعضهم مؤمناً وبعضهم كافراً، بل كلهم على طريقة واحدة.

أما إذا كان المتبع قد اتبع من هو مهتدٍ ولكنه اتبعه على غير ما كان عليه من الهدى، فهذا أمر آخر، وقد يقع مثل هذا، وهو يشير إلى أنه وجد من المقلدين الذين يقلدون بعض العلماء، ويوالون على التقليد ويعادون عليه، وإذا قيل لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كذا، والله جل وعلا يقول كذا، قالوا: الإمام أعلم منكم، والإمام أدرى، لو كان هذا صحيحاً ما خالفه الإمام، فهو يشير إلى مثل هؤلاء، وهؤلاء قلة بالنسبة لما ذكره الله جل وعلا في الآية؛ لأن الآية عامة في الخلق كلهم، وكل الناس معروف أن بعضهم يتبع بعضاً، وهذه سنة متبعة، ولهذا يقول الكفار للرسل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣] يعني: وجدناهم على ملة ودين ولن نترك ملتهم ولا دينهم، هؤلاء هم الذين يتبرأ بعضهم من بعض، وكذلك لما جاء موسى عليه السلام إلى فرعون، قال فرعون لما حاجه في تجاهل العالم يقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:٢٣] لا أنه لا يعرف رب العالمين، بل يعرفه ولكن هذا جحود منه، فقال له: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشعراء:٢٤] إلى أن قال فرعون: (فما بال القرون الأولى) يعني: الذين مضوا لماذا كانوا على الشرك والكفر؟ يعني: لنا فيهم قدوة وأسوة، فهذه حجة تدل على كثرة العالم الذين يكونون على هذه الطريقة، فهم الذين يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم ببعض.