للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم)]

قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:١٢٨ - ١٢٩]] هذه الآية استدل بها على صيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب التوحيد أن يدخل عليه شرك سواء كان دقيقاً أو صغيراً، خفياً أو جلياً.

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:١٢٨] (رسول) علم على من أرسله الله جل وعلا برسالة، وكل أمة لها رسول، ولا يصلح الناس إلا برسول؛ ولهذا تتابعت الرسل من أول الخلق إلى آخرهم، ولكن الله ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعله رسولاً لأهل الأرض كلهم، فإذا كان رسولاً لأهل الأرض جميعاً فالخطاب هنا (لقد جاءكم) هل يكون عاماً أو يكون خاصاً لقوم معينين؟ الواقع أنه عام، ولكن الخطاب فيه للعرب؛ لأنهم أخص الناس بذلك، وهذا يقتضي أن يشكروا الله ويحمدوه على هذه النعمة العظيمة؛ لأنهم أخص من غيرهم، وإلا فغيرهم من الناس كلهم يدخل في هذا الخطاب؛ لأن الخطاب للأمة إلى يوم القيامة، والأمة التي أرسل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا العرب فقط، بل العرب والعجم بأنواعهم والجن والإنس، كلهم مخاطبون بذلك، ولكن من كان الرسول منهم بالنسب واللغة ومعرفة المولد والمنشأ والمخرج والمدخل؛ فالنعمة عليهم أتم، والمنة عليهم أعظم، فيجب أن يشكروا الله جل وعلا أكثر من غيرهم.

{مِنْ أَنفُسِكُمْ} يعني: من جنسكم، يخاطبكم بلغتكم، تعرفون نسبه، وترجعون أنتم وهو إلى أب واحد وهو إسماعيل عليه السلام، وهذا استجابة من الله لدعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:١٢٩] فبعث منهم الرسول، فامتن الله جل وعلا عليهم بذلك، (من أنفسكم) يعني: أنه من جنسكم تعرفون لغته، وتعرفون أمانته وصدقه، فمن كان كذلك كانت المنة عليه أعظم، فيجب أن يشكر الله، أما إذا انعكست القضية وقابلوا هذه المنة العظيمة بالرد والنفور عنها، والتكذيب والكفران لها؛ فإن العذاب عليهم يكون أشد من غيرهم ممن لا يعرف هذه الأمور.

ومن المعلوم أن الله جل وعلا عذب الأمم التي كذبت الرسل، وقص الله جل وعلا ذلك علينا، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه فضل بعض الرسل على بعض، وقد علم أن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه هو أفضل الرسل، ومن المعلوم أن من كذب أفضل الرسل يكون عذابه أشد ممن كذب من هو دونه؛ لأن الفضل لا بد أن يأتي بزيادة بيان وزيادة إيضاح وزيادة حجة، بحيث يصبح الإنسان لا عذر له بوجه من الوجوه، فيكون مصادماً تمام المصادمة لما جاء به، فيكون عذابه أشد.

وقوله: (حريص عليكم) يعني: حريص على إيمانكم، وعلى طاعتكم، وعلى ما ينفعكم؛ ولهذا نهاه الله جل وعلا أن يحزن وأن يأسف الأسف الذي يعود عليه بالضرر، فقد كاد يهلك نفسه حرصاً على إيمانهم، فنهاه ربه جل وعلا عن شدة حرصه عليهم، وتأسفه على عدم إيمانهم، وأخبره جل وعلا أن ما عليه إلا البلاغ المبين، وهذا يكفي.