للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حرمة الاستنجاء برجيع دابة أو عظم]

المقصود برجيع الدابة: روث الدواب من الإبل والبقر وغيرها، فلا يجوز للإنسان إذا قضى حاجته أن يتمسح بروث الدواب؛ فإن هذا من المحرمات، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فعل هذا، وقد جاءت علة النهي في أحاديث معروفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها أنه أخبر أن الرجيع علف دواب الجن من المسلمين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه التقى بالجن، ودعاهم إلى الله، وأنهم أسلموا، وسألوه الطعام لهم ولدوابهم، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: (لكم كل عظم ذكر عليه اسم الله جل وعلا، تجدون عليه لحماً أوفر ما كان) هذا لهم، فلهذا حرم الاستنجاء بالعظام من أجل ذلك؛ لأن هذا يفسدها على الجن.

وأما دوابهم فأرواث دواب الإنس يكون علفاً وطعاماً لدوابهم، وهذا خاص بالمؤمنين من الجن، أما الكافرون منهم فإنهم لا يجدون من ذلك شيئاً، وإنما يطعمون ما يطعمهم الله جل وعلا حلالاً أو حراماً.

أما ما يجيء من الوعيد في الحديث كأن يقول: فإن محمداً صلى الله عليه وسلم برئ منه أو يقول: فإنه ليس منا، أو يقول: من فعل كذا وكذا فقد كفر، كما في السنن: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول: فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وكذلك قوله: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وكذلك: قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣]، وكذلك قوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠] وما أشبه ذلك كثير؛ فإن للعلماء في هذا مذهبين مشهورين: المذهب الأول: أنه لا بد من تأويل ذلك؛ لأن الفاعل لهذه الأمور لا يكون كافراً، فقالوا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن محمداً بريء منه) يعني: بريء من فعله، أو أنه برئ منه في هذه الحال، فإذا راجع ربه، وتاب، وأقلع عن ذلك الذنب، فإنه لا يكون بريئاً منه، وفي مثل قوله: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) يعني: أنه كفر دون كفر، لا يكون كفراً مخرجاً من الملة والدين رأساً، وقالوا: في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} يعني: لو جازاه، ولكن الله يعفو، وهكذا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} وما أشبه ذلك، وهذا مشهور في كتب التفسير، وفي شروح الأحاديث إذا نظرت فيها، فإنهم يشرحونها بمثل هذه الألفاظ.

المذهب الثاني: مذهب كثير من المحققين يقولون: هذا التأويل خطأ، وإنما الواجب أن تبقى هذه النصوص كما جاءت مع اعتقاد أن الفاعل لها لا يكون كافراً، ولا يكون خارجاً من الملة، ولكن لا يجوز لنا أن نتأولها؛ لأن تأويلها يكون فيه محذوران: الأول: الخطر في ذلك، لأننا لا ندري مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا، فإذا عينا شيئاً فإننا نكون على خطر، فقد يكون هذا الشيء الذي عيناه ليس هو مراد الله ولا مراد رسوله عليه الصلاة والسلام.

الثاني: أن هذه النصوص إذا تركت كما جاءت فإن هذا يكون أدعى للانزجار والابتعاد عن اقتراف مثل هذه الذنوب، وهذا هو الراجح، فإذا جاءت مثل هذه الأخبار فإنها تترك كما جاءت، مع الاعتقاد بأن الفاعل لهذه الأمور ليس كافراً وليس خارجاً من الدين، والله أعلم.

قال الشارح: [الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة، وفيه قصة اختصرها المصنف، وهذا لفظ الحسن: قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم، وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث.

ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان قال: حدثني المفضل قال: حدثنا عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني الحديث.

ابن لهيعة فيه مقال، وفي الإسناد الثاني شيبان القتباني قيل فيه: مجهول، وبقية رجالهما ثقات.

قوله: (لعل الحياة ستطول بك) فيه علم من أعلام النبوة، فإن رويفعاً طالت حياته إلى سنة ست وخمسين، فمات ببرقة من أعمال مصر أميراً عليها وهو من الأنصار، وقيل: مات سنة ثلاث وخمسين.

قوله: (فأخبر الناس) دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصاً بـ رويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود.

قوله: (أن من عقد لحيته) بكسر اللام لا غير، والجمع لحى بالكسر والضم قاله الجوهري.

قال الخطابي: أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين: أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها قال أبو السعادات: تكبراً وعجباً.

ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث، وقال أبو زرعة العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع وفيه: أن من عقد لحيته في الصلاة.

قوله: (أو تقلد وتراً) أي: جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته، وفي رواية محمد بن الربيع (أو تقلد وتراً) يريد تميمة.

فإذا كان هذا فيمن تقلد وتراً فكيف بمن تعلق بالأموات، وسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات الذي جاء النهي عنه وتغليظه في الآيات المحكمات؟! قوله: (أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه) قال النووي: أي: بريء من فعله، وهذا خلاف الظاهر، والنووي كثيراً ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله تعالى له.

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن)، وعليه لا يجزئ الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران)] يعني: لو أن الإنسان استنجى بالعظم أو بالروث فإن طهارته غير مجزئة، هذا إذا اقتصر على الاستجمار، أما إذا استنجى بالماء، فإن هذا لا أثر له، وإن كان فعله محرماً؛ لأن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على الفساد، فكل ما نهى عنه من هذا القبيل، ثم ارتكب ذلك النهي، فإنه لا يجزئه إذا رتب عليه عبادة.

والاستجمار يكفي الإنسان إذا استجمر بثلاثة أحجار أو بغير الأحجار مما يزيل وينقي، ولا يجب الاستنجاء بالماء، بل يتوضأ ويبدأ بوجهه بعد الاستجمار، ويغسل يديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه، وبهذا يكون قد كمل وضوءه.

وهذا أمر كان مشهوراً عند الصحابة، بل كثير منهم ما كان يعرف إلا هذا، وما كانوا يعرفون الاستنجاء بالماء، حتى أن الله جل وعلا لما أنزل قوله لأهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:١٠٨] قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء، فما هذه الطهارة؟ قالوا: ما هو إلا أننا رأينا اليهود يغسلون أدبارهم بعد قضاء الحاجة، ففعلنا ذلك، فقال: هو ذاكم فعليكموه)، والمقصود أن الإنسان يجزئه في الوضوء الاستجمار إذا استعمل الشيء الطاهر المأذون فيه، أما إذا استجمر بعظم أو بروث وإن كان منقياً مزيلاً للخارج، ثم تطهر بعد هذا ولم يستنج، فإن طهارته باطلة؛ لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك.