للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة أول شرك حدث في الأرض]

هذه القصة فيها معتبر، وهؤلاء الذين صوروا صور هؤلاء الصالحين ما كان عندهم في زمنهم شرك؛ لأنهم ذرية آدم؛ وآدم نبي، خاطبه الله جلَّ وعلا وأمره أن يتبع، وبين له الأوامر، وكان أولادُه على طريقته، ما كانوا يخالفون في ذلك، فبقوا وقتاً طويلاً، يقول ابن عباس: عشرة قرون، وقد اختلفوا في تحديد القرن فمنهم من يقيده بمائة سنة، ومنهم من يقيده بمائة وعشرين، ومنهم من يقول أقل، ومنهم من يقول أكثر.

ثم حدثت هذه الحادثة وهي: أنه كان فيهم خمسة رجال من الصالحين المجتهدين فيهم، فماتوا واحداً بعد الآخر في زمن متقارب، فأسفوا عليهم وجزعوا لذلك، فدعاهم الجزع عليهم وحبهم والتعظيم لهم أن صوروا صورهم، ونصبوها في المجالس التي كانوا يجلسونها ويعبدون الله فيها، ووضعوها لغرض أنهم إذا رأوها يجتدهون في العبادة، لا لأجل أنهم يعبدونهم، وإنما لأجل أن يتذكروا أفعالهم إذ رأوا صورهم؛ ولكن الشيطان فرح بهذا؛ لأن الشيطان له نظر بعيد، يعرف كيف تئول الأمور، وهو يشم القلوب ويعرف ميلها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) يعني: يعرف ماذا يميل إليه الإنسان، فيميله بشهواته.

فلما صوروا هذه الصور فرح بهذا؛ لأنه فقيه في الشر يعرف كيف يدعو إليه، فسكت عن هذا الأمر حتى مات هؤلاء الذين يعرفون السبب، ومات أبناؤهم الذين علمهم آباؤهم السبب، وجاء من لا يعرف ذلك، ولهذا يقول ابن عباس: (فنُسي العلم) يعني: العلم بسبب التصوير نُسي وذهب، عند ذلك جاءت فرصة الشيطان، فجاء إليهم وقال: آباؤكم ما صوروا هذه الصور إلَّا ليتوسلوا بها ويجعلوها وساطة بينهم وبين الله، فيطلبون الله بها، ويستغيثون بها ويتشفعون بها، فوقعوا في الشرك بدعوة الشيطان هذه، وهذا هو أول شرك وقع في الأرض، وإنما كان بسبب الصور والغلو في الحب الذي لم يشرعه الله، وإن كان حب الصالحين مشروعاً، إلا أن محبتهم ليست لذواتهم، فلا تحب الصالح لأنه لحم ودم، ولأن صورته كذا وطوله كذا، ولأنه ابن فلان، وإنما تحبه لأنه يعبد الله، ولأنه مجتهد في طاعة الله، ولأنه صلح في اتباع أمر الله واجتناب نهيه، هذا أمر مشروع؛ ولكن هؤلاء تعدوا هذا الأمر فزادوا وتجاوزوا فيه إلى أن فعلوا هذه الأفاعيل فصارت سبباً في الشرك، فكل تجاوز عن المشروع لابد أن تكون نتيجته سيئة جداً مثل هذه.

فلما وقعوا في هذا الشيء ازداد الأمر واتسع، وصار من بعدهم يستشهد بهم، فكل من جاء من الناس يوجِد له معبوداً شبيهاً لهذه المعبودات حتى انتشرت المعبودات جداً عندهم، وكثرت المعبودات التي تُجعل واسطة بين الإنسان وبين ربه، فعند ذلك أرسل الله جلَّ وعلا إلى أهل الأرض نوحاً عليه السلام، وهو أول رسول، أما والده آدم فإنه كان نبياً؛ لأن النبي يكون في الأمة المؤمنة بمنزلة العالم الذي يكون في هذه الأمة؛ يبين الحق ويكون مرجعاً عند الاختلاف وما أشبه ذلك، وليسوا بحاجة إلى رسالة جديدة، وإنما الرسالة تكون إلى القوم الكافرين المشركين، وهذا هو الفرق بين الرسول والنبي.

فجاء نوح عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وترك ما كانوا عليه من هذه الأصنام؛ ولكنهم كانت قلوبهم قد أُشْرِبَت حبَّها، وقد مضى على ذلك كثير منهم متمسكين بها، فصارت سُنَّة ماضية، وصار يوصي بعضهم بعضاً بعدم الاستجابة لنوح، ويبالغون في ذلك أشد المبالغة؛ لأن النفوس -في الواقع- تحب الباطل وتميل إليه وتكره الحق، هذا شيء مغروس في الإنسان، والكل يدرك ذلك، والحق قد يكون ثقيلاً عند أكثر الناس؛ والسبب في هذا أنه لا حظ للنفس فيه؛ لأنه أمر الله جلَّ وعلا، وهو شيء ليس جزاؤه العاجل بل جزاؤه الحقيقي هو المنتظر، وقد يستبعد الإنسان ذلك.