للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الغلو في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم]

قال الشارح رحمه الله: [وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر، فخالفوا ما بلغ به الرسول الأمة، وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وسلم، فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله، والتعلق على غير الله، حتى قال قائلهم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم فإن من جودك الدنيا وخيرتها ومن علومك علوم اللوح والقلم].

هذه يقولها البوصيري في قصيدته التي تسمى البردة، والتي يغلو فيها كثير من الناس، ويجعلها أفضل من آية الكرسي، ويجعلها ورداً له، يحفظها ويقرؤها مساء صباح، وهذا في الواقع من الشرك الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى.

ومعلوم أن قائل هذه الأبيات هو ممن كان يكتب التفسير والحديث، وهذا دليل على أنه لا يجوز الاغترار بالإنسان وإن كان من العلماء؛ لأن الواجب أن ينظر في فعل الإنسان هل هو موافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنه مخالف، أما بعض الذين يدافعون عنه فيقولون: هذا كله من باب الشفاعة، فألفاظها لا تساعده، بل هي صريحة في الشرك، خصوصاً عند قوله: ما لي من ألوذ به).

وأين الله؟ مع أنه يستعيذ بالرسول صلى الله عليه وسلم من الله، ووجود مخلوق يستعاذ به من الله هذا أمر جلل، تعالى الله وتقدس! (ما لي من ألوذ به سواك)، يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: أنت وحدك الذي ألوذ به؛ فنسي رب العالمين، وهو الملاذ والمعاذ الذي يجب أن يلاذ ويستعاذ به.

وقوله: (عند حلول الحادث العمم) الحادث العمم الذي يعم الخلق كلهم إذا جمعوا في صعيد واحد، وقاموا لرب العالمين، ولهذا قال في البيت الثاني يخاطب الرسول أيضاً: إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم يعني: إن لم تتفضل يا رسول الله وتأخذ بيدي، وتنقذني من عذاب الله وغضبه، فقد زلت قدمي، وهويت بالعذاب، وهذا صريح في أنه يلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الله، ومن عذابه تعالى الله وتقدس.

ولهذا قال: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم يقول: إذا غضب الله جل وعلا يوم القيامة على خلقه فأنا مستجير بكرمك، ولا يضيق كرمك بي أن تحميني من غضب الله، نعوذ بالله من الخذلان.

ويقول في البيت الآخر: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إذاً: ما الذي تركه لله تعالى إذا كانت الدنيا والآخرة من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا بقي فوق هذا من غلو النصارى نسأل الله العافية.

ومع ذلك يأتي من هو واقع في الشرك، وفي عبادة الأشخاص، ويعتبر أن هذا الشرك من التشفع ويقول: هذا تشفع.

مع أن الشفاعة لا تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا طلبت منه فهو الشرك؛ لأن الشفاعة تطلب من الله مالكها، كما قال جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:٤٣ - ٤٤]، ويقول جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، ولا يوجد أحد يشفع بدون إذنه.

ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعته التي يكرمه الله جل وعلا بها في الموقف، ذكر أنه يسجد لله أولاً، ثم يدعه الله جل وعلا ما شاء، ثم يأمره برفع رأسه، ويقول: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فقبل أن يقول له: اشفع.

لا يمكن أن يشفع.

وفي رواية: أنه يحد له حداً هذا في الشفاعة الأخرى، أما الشفاعة الكبرى فلا حد فيها، لأنها شفاعة في أن يحاسب الله خلقه فقط، وإنما الحد في الشفاعة في الذين دخلوا النار، فإنه إذا شفع يحد الله جل وعلا له حداً معيناً، لأن الشفاعة لله جل وعلا.

وحقيقة الشفاعة: هي أن الله جل وعلا يريد رحمة هذا المشفوع له، وإكرام الشافع وإظهار كرامته فقط، وإلا فلا أحد يملك مع الله شيئا، وكل هذه المزاعم مزاعم شركية وثنية لا تعدو أن تكون من دين أبي جهل وأبي لهب وغيرهم بل هي فوقه.

وكم وقع الناس في هذا البلاء والشرك العظيم باسم مدح الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مع أنه صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (يا سيدنا وابن سيدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا، قال لهم: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، فأنا عبد الله ورسوله لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا)، وفي حديث آخر يقول: (ولا يستجرينكم الشيطان)، يعني: لا يتخذكم مراكز له ويجريكم في الباطل، وترتكبوا ما نهيتكم عنه.

فقد بين صلوات الله وسلامه عليه الحق الذي يجب اتباعه، وحمى حق الله جل وعلا خير حماية، وسد طرق الشرك التي يمكن أن يدخل الشيطان منها، ولكن يأبى كثير من الناس إلا أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة، ويزين له الشيطان أن هذا من حبه مع أنه من بغضه؛ فالذي يفعل ذلك يبغضه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١].

فحبه صلى الله عليه وسلم في طاعته، واتباع أمره؛ فمن كان محباً له أطاع أمره، واستن بسنته، وانتهى عما نهى عنه، وإلا فهو كاذب في دعواه.