للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أثر ابن جبير: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة)]

قال الشارح: [وعن سعيد بن جبير قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) رواه وكيع، وهذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي، فيكون هذا مرسلاً؛ لأن سعيداً تابعي، وفيه فضل قطع التمائم؛ لأنها شرك.

ووكيع هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي ثقة إمام صاحب تصانيف منها الجامع وغيره، روى عنه الإمام أحمد وطبقته، مات سنة سبع وتسعين ومائة].

وفي هذا الحديث الحث على إزالة المنكر، والإنسان إذا أزاله فإنه يؤجر على ذلك، ولا سيما إذا كان من نوع الشرك، ولهذا قال: (من قطع تميمة من إنسان كانت كعدل رقبة) يعني: مثل الذي يعتق الرقبة، وليس المقصود قطع التميمة فقط، بل المقصود بقطع التميمة أيضاً تنبيه الذي علقها، وتعليمه أن هذا قد يؤدي به إلى الخلود في النار إذا أشرك بالله ومات على هذا، فهو ينقذه من هذا الفعل الذي قد يكون سبباً لخلوده في النار، فيكون بذلك كمن أعتق رقبة، وعتق الرقبة فضله عظيم، حث الله جل وعلا عليه، وأخبر أن من أعتق إنساناً فإن الله يعتقه من النار.

فإذا كان الأمر هكذا فكيف بمن ينقذ خلقاً كثيراً من هذه الورطات؟ فإنه يكون له أجر عظيم، له أجر بعددهم، كأنه أعتق هؤلاء الذي أرشدهم وأخبرهم بأن هذا الأمر الذي وقعوا فيه شرك، وأنهم لو استمروا على ذلك وماتوا عليه لكانوا هالكين، ففي هذا الترغيب لدعوة من يقع في المحذورات، ولكن الدعوة يجب أن تكون برفق وبحكمة وبعلم، ومعرفة بالأحكام التي تترتب على هذا؛ لأن الإنسان إذا لم يدع بحكمة وبرفق فإنه قد يفسد أكثر مما يصلح، وإذا كان يدعوهم بقوة وعنف فإنهم يأبون قبول كلامه، ويكون ذلك داع لهم بالتمسك بما هم عليه؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يأتي إلى أحد الكفار، ويعرض عليه الدعوة عرضاً فيقول: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فإن قال: بلى، كلمه، وإن قال: لا، تركه، فهكذا ينبغي للإنسان أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمره الله جل وعلا بأن يصبر صبراً جميلاً، وأن يصفح عمن أذاه، سواء كانت الأذية بالكلام أو بالفعل، حتى يكون عنده قوة يستطيع أن يمنع المعاند بها بعد أن تبين له الحق، فإن مثل هذا لا يفيد معه الكلام، وإنما يفيد معه الحديد الذي قرنه الله جل وعلا بالكتاب، فإن الله أنزل الكتاب وأنزل الحديد، فالحديد للمعاند المتكبر الذي تبين له الحق فأبى قبوله وحاربه، أما الإنسان الذي يكون جاهلاً، وربما يكون قصده الحق ولكن أخطأه؛ فمثل هذا يجب أن يستعمل معه اللين والرفق والبيان بأسلوب يجعله يقبل ما معه، ولا سيما إذا كان بينه وبينه، ليس على رءوس الأشهاد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى من أحد أمراً فيه مخالفة لا يخصه بعينه، بل يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) فيأتي بالكلام مجملاً عاماً حتى لا يكون على من وجه إليه ذلك حرج، فمن نصح أمام الناس فإنه يتضايق من ذلك، فالمسلم يجب عليه أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب عليه أن ينظر في المصلحة التي قصد منها الأمر بالمعروف، والمقصود من الأمر بالمعروف ثلاثة أمور: أحدها: أن تبرأ ذمتك؛ لأنك إذا رأيت منكراً ولم تغيره، فإن الله سوف يسألك عنه يوم القيامة، فإذا قال الإنسان: خفت الناس، يقول الله جل وعلا: أنا أحق أن تخافني، ففي هذا خلاص نفسه.

الأمر الثاني: امتثال أمر الله جل وعلا، وأداء للدعوة تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا يقول له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨] فأتباع الرسول لا بد أن يكون لهم نصيب من دعوته صلى الله عليه وسلم.

الأمر الثالث: رحمة بهذا الإنسان الذي وقع في هذه المخالفة، فترحمه وتخشى عليه أن يقع في العذاب، فأنت تحاول أن تنقذه، هذا هو مقصود الأمر بالمعروف، وليس المقصود به فضيحة الناس وتشهيرهم بأمور لا يريدونها، فإن هذا لا يجوز.

لهذا كان من أعظم ما يفيد ويجدي في الأمر بالمعروف أن تأتي إلى الإنسان وتنصحه بينك وبينه، وتقول له بنصح وحسن نية سراً بينك وبينه: اتق الله، هذا لا يجوز، وتأتيه أيضاً بأسلوب ليس خشناً حتى يقبل منك، فالله جل وعلا يقول لموسى لما أمره أن يذهب إلى فرعون هو وأخوه هارون: {فقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤]؛ لأن فرعون كان يقول: أنا ربكم الأعلى، ومع هذا يأمر الله جل وعلا موسى أن يقول له قولاً ليناً؛ ولهذا امتثل موسى ذلك، وعرض عليه عرضاً فيه اللين والهدوء، أما القسوة وخشونة الكلام فهذا لا يجدي شيئاً.