[أقسام التوحيد]
التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: ١ - توحيد العبادة.
٢ - توحيد الربوبية.
٣ - توحيد الأسماء والصفات.
أما توحيد العبادة فهو إفراد الله بأفعال العبد التي يفعلها على وفق الشرع، فيجب أن يجعله واحداً، ويقصده ولا يقصد بعمله غير الله، فتوحيد العبادة يكون صادراً من العباد؛ لأنهم هم الذين يوحدون الله بأفعالهم التي يفعلونها، ويتقربون بها إلى الله جل وعلا، ولا يجعلون مع الله غيره، يعني: لا يقصدون بها غير الله.
وهذا جاء الأمر به في القرآن في مواضع كثيرة جداً، وهو الذي وقع فيه النزاع بين الأمم ورسلهم، وهو الذي أبى أكثر الناس أن ينقاد إليه، تمسكاً بما عليه آباؤهم، وما وجدوا الناس عليه، كما قال الله جل وعلا عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣] يعني: وجدنا آباءنا على دين يدينون به، وملة يتبعونها، فنحن نتمسك بها، ولما نهى هود عليه السلام قومه عن اتخاذ الآلهة رموه بالجنون وقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:٥٤] يعني: أصابت عقلك بخبل، كيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا وما وجدنا عليه الناس؟! فعدوا دعوته لهم جنوناً، فقال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:٥٤ - ٥٥] تحداهم وقال: أنتم وآلهتكم إذا كان عندكم كيد وضر لي فأسرعوا به فلن تستطيعوا، فلو كانت آلهة لفعلت ذلك بهذا الذي يراغمها، وقد أخبر الله جل وعلا عنها بما هو أضعف من ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:٧٣] فلو أن الذباب أخذ شيئاً من هذه الآلهة التي تعبد فلن تستطيع هذه الآلهة أن تأخذه من هذا الذباب.
والمقصود: أن توحيد العبادة هو الذي جاءت به الرسل صراحة، فكل رسول كان يقول لأمته: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:٣٢] كل رسول قال هذا كما قص الله جل وعلا علينا ذلك في كتابه.
القسم الثاني: توحيد الربوبية، ومعناه: أن يعتقد الإنسان أن الله هو الخالق وحده، المتصرف المدبر لكل شيء، المالك لكل شيء، وهذا لم ينكره أحد، بل سائر الناس يقرون به، وإنما أنكره أفراد معينون على وجه التعنت والجحود والتكبر والعناد فقط، مثل النمرود، ومثل فرعون الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، ولكن لما أدركه الغرق {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:٩٠] ولكن لم يفده ذلك؛ لأنه قاله بعد أن عاين الموت، وأيقن بالهلاك.
والله جل وعلا أخبر أن فرعون وهامان وقارون -هؤلاء المتكبرون- استيقنوا أن ما جاء به موسى حق، وأنه جاء به من عند الله، ولكنهم تكبروا وعاندوا.
وكذلك النمرود الذي أنكر على إبراهيم عليه السلام، ولما قال له إبراهيم: إن الله يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، فقال له إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:٢٥٨] إن كنت صادقاً فبهت، وما استطاع أن يتكلم أو يجيب؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً مما يفعله الله جل وعلا.
فالمقصود: أن توحيد الربوبية يقر به الناس عامة، والمشركون الذين يعبدون غير الله يقرون بتوحيد الربوبية ويقولون: إن الله هو الذي خلقهم، وهو الذي خلق من قبلهم، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي ينزل المطر وينبت النبات، وهو الذي يتصرف في الكون كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢١ - ٢٢] يعني: يعلمون أن الله هو الذي يفعل ما ذكر من كونه خلقهم، وخلق من قبلهم، وكونه جعل الأرض لهم فراشاً يتمكنون من المشي عليها والانتفاع بها، وجعل السماء بناءً، يرونها فوقهم بلا عمد، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات ما يأكلونه وتأكله أنعامهم، ويعلمون أن الله هو المتفرد بذلك، فإذا كانوا يعلمون أن الله هو المتفرد بهذا وجب عليهم أن يعبدوا الله وحده؛ ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} يعني: في العبادة {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: أنه ليس معه من يتصرف بهذا الذي ذُكر أو غيره.
وهذا في القرآن كثير جداً، يحتج الله جل وعلا على المشركين بما يقرون به من توحيد الربوبية على إبطال شركهم.
وأما توحيد الأسماء والصفات فالله جل وعلا تعرَّف إلى عباده بما وصف به نفسه، وبما سمى به نفسه، فيجب أن يؤمن بما ذكره الله جل وعلا على حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، وقد ذكر الله جل وعلا صفات كثيرة، مثل أن له العلم الكامل الشامل، وله القدرة على كل شيء، وله السمع والبصر، وله الإرادة، وله الحياة، وله يدان كما قال الله جل وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:٦٤].
وأخبر جل وعلا أنه يقبض السماوات والأرض يوم القيامة بيده، وتكون صغيرة حقيرة كما في هذه الآية التي ترجم بها المؤلف، وأخبر جل وعلا أنه حكم عدل لا يظلم أحداً، وأخبر جل وعلا أنه يعلم ما توسوس به النفوس، وأنه كتب كل شيء، وما أشبه ذلك من أوصافه الكثيرة التي ذكرها في كتابه.
وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر أشياء كثيرة جداً يصف بها ربه، وقد آمن بها صحابته بدون شك في ذلك أو تردد فيه، أخبرهم أن الله في السماء، وأخبرهم أنه مستوٍ على عرشه، وأخبرهم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل الأخير، فيبسط يده للمسيء والتائب والمستغفر فيقول: هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من تائب فيتاب عليه؟ هل من سائل فيعطى؟ إلى أن يطلع الفجر، وأخبر بأشياء كثيرة، وكلها يجب أن نؤمن بها على ما جاءت بدون تأويل أو تعطيل، بل يكون الأمر مثل ما قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سأله سائل عن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] كيف استوى؟ فأطرق، وصار العرق يتصبب منه، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، فأمر به فأخرج من مجلسه؛ لأن هذا لا ينكره المؤمنون، ولا يسألون عن الكيفية: كيف يد الله؟ كيف سمع الله؟ كيف بصر الله؟ الكيفية ما تعقل إلا لمن يشاهدها ويراها، والله جل وعلا غيب لا أحد يراه، وليس كمثله شيء فيقاس عليه تعالى وتقدس، وإنما علينا أن نؤمن بما قاله الله رسوله صلى الله عليه وسلم، بلا تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل بخلقه تعالى وتقدس.