للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علة النهي عن الصلاة في المقابر]

قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاصده؛ جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتين: صيغة (لا تفعلوا) وصيغة (إني أنهاكم عن ذلك) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكاباً لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم لها أشد تعظيماً وأشد فيهم غلواً كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله! من هذا الباب دخل الشيطان على عباد يغوث ويعوق ونسراً، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وأنزلهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية، وسلب خصائص الإلهية عنهم.

قال الشارح رحمه الله تعالى: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الإسلام وغيرهم رحمهم الله وهو الحق الذي لا ريب فيه] يقصد: أن بعض الفقهاء المتأخرين علل المنع من الصلاة في المقابر بأنها نجسة؛ لأن فيها صديد الموتى وما أشبه ذلك، وهذا تعليل عليل بل هو ميت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بذلك سد الذرائع؛ حتى لا تكون العبادة لغير الله تعالى، ولكن الذين لم يفهموا هذا، وكان عندهم من الأمور العالقة من حب التعلق بغير الله، وصرف شيء من العبادة لهم، قالوا هذا التعليل؛ حتى يصح لهم ما أرادوه من جواز التعبد عند المقابر، ولكن إذا سلم بالتعليل فكيف يسلم بالنصوص.

ومن المعلوم أن الألفاظ وضعت للمعاني التي وضعت لها، وأن الإنسان يجب عليه أن يتعرف على مراد الله ورسوله، فإذا تبين مراهما فلا يجوز أن يعدل عنه بقول أحد من الناس، ولكن: ليس كل من قال قولاً من العلماء يؤاخذ به دون النظر إلى قصده؛ لأنه قد يخفى عليه المراد، فيقول قولاً -وعنده من النية الحسنة ما يثاب عليها- ويكون في قوله ذلك مخطئاً، ولا يجوز أن يتابع على هذا، ولذلك فإن الذي يعلم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين عليه أن يحذر من ذلك وينهى؛ لأن النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولعامة المسلمين، ولأئمتهم أمر واجب، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة ديناً، فقال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة الدين النصيحة، فقيل لمن يا رسول الله؟ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وأئمتهم هم قادتهم، والنصيحة: مأخوذة من النصح وهو: الصفاء، أن تبذل لمن تنصح صافي قولك، وصافي ودك، وصافي محبتك، وهذه من صفات المؤمنين، فالمؤمن يود لأخيه ما يود لنفسه، فمن اطلع على شيء من أمور الشرع يتعين عليه إفشاء ذلك، وإظهاره والدعوة إليه، ومن أعظم الأمور التي ينبغي أن يتناصح الناس فيها: العبادات، والتعلق بغير الله جل وعلا: إما أن يكون مفسداً للعبادة نهائياً، أو يكون منقصاً لها ومذهب لكمالها، أما إذا كان مفسداً لها فمعنى ذلك أنه شرك، وأما إذا ذهب بكمالها ونقصها فهو من البدع فقط.

والبدعة مردودة على صاحبها، ولكن لا يكون المبتدع كالمشرك، وإذا مات على بدعته فإنه يخاف عليه، ولكن لا يكون خارجاً من الإسلام إذا كانت البدعة ليست مخرجة من الدين، بل له حكم المسلمين، بخلاف المشرك الذي مات وهو يعبد مع الله غيره، ويجعل لغير الله شيئاً من العبادة التي أمر الله جل وعلا بإخلاصها له، فإن هذا غير مغفور له، نسأل الله العافية.

فتعليلهم: بأنها مظنة للنجاسة غير صحيح، والمسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم لا ينجس)، وأما كونه يغسل إذا مات فليس للنجاسة، وإنما ليستقبل داراً جديدة بطهارة كاملة، وإن كان غير مكلف ولكن الشرع يجب أن يتبع.

قوله: (فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً)، أي: لما علموا من تشديده في ذلك، وتغليظه النهي عنه، ولعن من فعله.

قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً)، أي: وإن لم يبن عليه مسجد، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، يعني: وإن لم يقصد بذلك اتخاذ ذلك المكان مسجداً، فإذا أوقع الصلاة عنده -من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه- صار بفعل الصلاة فيه مسجداً.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) أي: فسمى الأرض مسجداً، تجوز الصلاة في كل بقعة منها، إلا ما استثني من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها كالمقبرة ونحوها.

قال البغوي في شرح السنة: أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا؛ تخفيفاً عليهم وتيسيراً، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس.

انتهى].