[أكثر شرك الأولين سببه تقليد الآباء والأجداد]
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يكون المسيَّب حضر مع الاثنين؛ فإنهما من بني مخزوم، وهو أيضاً مخزومي، وكان الثلاثة إذ ذاك كفاراً، فقتل أبو جهل على كفره، وأسلم الآخَران.
قوله: (يا عم!) منادى مضاف يجوز فيه إثبات (الواو) وحذفها، حذفت (الياء) هنا، وبقيت الكسرة دليلاً عليها.
وقوله: (قل: (لا إله إلَّا الله)) أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برئ من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام؛ لأنهم يعلمون ما دلت عليه، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلَّا مسلم أو كافر، ولا يقولها إلَّا من ترك الشرك وبرئ منه.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون، والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها لكن لا يعتقدونها لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن، وفيها اليهود، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر ووادعهم بألَّا يخونوه، ولا يظاهروا عليه عدواً، كما هو مذكور في كتب الحديث والسير.
قوله: (كلمةً) قال القرطبي: بالنصب على أنه بدل من (لا إله إلَّا الله)، ويجوز الرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف.
قوله: (أحاجّ لك بها عند الله) هو بتشديد (الجيم) من المحاجَّة، والمراد بها: بيان الحجة بها لو قالها في تلك الحال.
وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها في تلك الحال معتقداً ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته.
قوله: (فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) ذكَّراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين، كقول فرعون لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:٥١]، وكقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:٢٣].
قوله: (فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا) فيه معرفتهما لمعنى (لا إله إلَّا الله)؛ لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبرئ من ملة عبد المطلب؛ فإن ملة عبد المطلب فيها الشرك بالله في إلهيته، وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم، وقد قال عبد المطلب لـ أبرهة: (أنا رب الإبل، والبيت له رب يمنعه منك).
وهذه المقالة منهما عند قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: (قل: لا إله إلَّا الله) استكباراً عن العمل بمدلولها، كما قال الله تعالى عنهما وعن أمثالهما من أولئك المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:٣٥ - ٣٦]، فرد عليهم بقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:٣٧] فبين تعالى استكبارهم عن قول: (لا إله إلَّا الله) لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله].
قوله: إنه عندما عرض عليه أن يقول: (لا إله إلَّا الله) قالا له - أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية -: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! يقول: فذكَّراه الحجة الملعونة، يعني بـ (الحجة): أنهم وجدوا آباءهم على شيء، وهذه هي التي يحتج بها المشركون قديماً وحديثاً، فإذا نُهوا عن الشرك قالوا: الكثيرون على هذا، والقليل الشاذ هو الذي خالف ذلك، وهؤلاء الذين عندهم تعظيم الآباء والعادة التي وجدوا عليها أسلافهم استبعدوا أن يكون هذا ضلالاً وكفراً، بل تمسكوا به بغض النظر عن كون الأدلة واضحة في بطلانه، وهذه -في الواقع- حجة نشأ بعض الناس عليها، وهي تمنعهم من استعمال عقولهم؛ لأنه إذا عاش على شيء ووجد عليه آباءه وأقرباءه وقومه ومعظَّميه يصعب عليه مخالفتهم؛ فيسبب ذلك أنه يتبعهم ويسلك مسلكهم.
ويقول: إن هذا هو الذي قال فيه فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:٥١] لما قال لهم موسى عليه السلام: اعبدوا الله وحده، وأخلصوا العبادة له.
يقول: إن القرون السابقة ما كانت تعبد الله، وإنما كانت تعبد الأصنام والأوثان وغيرها، فما بالها؟ بالها أنها هالكة، وأنها على ضلال، والله جلَّ وعلا أهلكها، وليست هذه حجة.