ابتلاء الأنبياء والأولياء دليل على أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم)، ولهذا ورد في حديث سعد: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي في الأرض وما عليه خطيئة)، رواه الدارمي وابن ماجة والترمذي وصححه.
وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة، ولا يدفعه عنهم إلا الله؛ عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم لقضاء حاجة أو تفريج كربة، وفي وقوع الابتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يحصى].
هذا واضح وجلي، فقد ابتلي بعض الناس -نسأل الله العافية- بالتعلق بدعاء المخلوق والشرك به ويوجد كثير من الناس يعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعبد الأولياء، ويتلمس لذلك الأدلة، مع أن كتاب الله جل وعلا ودعوة الرسل كلها جاءت بوجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأن الإلهية له وحده، ولكن الشيطان لا يزال بالإنسان حتى يحرف الأمور الواضحة الجلية، فيجعل العبادة غير العبادة، ويجعل التعلق في قالب آخر، فإذا جاء الشر صريحاً صار يؤوله.
والمعروف أن كثيراً من الناس يتعلقون بمن يسمونهم أولياء، مع أن الولاية أمرها خفي، فقد يظهر للإنسان أن فلاناً صالح أمام الناس، وهو في نفسه فاسد ليس صالحاً، وليست المسألة مسألة ما يظهر للناس، وإنما هو الشيء الذي يكون عند الله للإنسان، فقد يري الناس مثلاً أنه مطيع ومن الفضلاء، فإذا توارى عن الناس تجرأ على الله جل وعلا في المعاصي، وهذا يوجد بكثرة، وقد يكون هذا المرض واضحاً عند كثير من الناس.
فكون هذا ولياً أمر لا يعلمه إلا الله، إلا أن يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن إنسان بعينه، وكونهم مثلاً يتعلقون به أمر محرم.
هذا أمر.
الأمر الثاني: أن الدين الإسلامي جاء بوجوب الإخلاص لله وحده، ووجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذين الأمرين، فكون العبادة كلها لله خالصة ليس فيها شيء لغيره، وكون العبادة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون بالاختيار أو بالنظر أو بالاستحسان، أو بما يتعارف عليه الناس ويصطلحون عليه كالموالد وما أشبه ذلك من الأمور التي يفعلونها ثم يبحثون عن الأدلة من بعيد، ويتعلقون بأشياء عجيبة، فيقولون: إنها مشروعة، كيف كانت مشروعة وهي أول ما أحدثت في القرن السادس؟! هل احتفل الرسول صلى الله عليه وسلم بمولده؟ وهل احتفل به أحد من صحابته؟ هذا لا يثبته إلا كذاب مكابر، فكيف يكون بعد ذلك عبادة وفيها هوى النفوس واستيلاء الجهل عليها؟! وأشياء كثيرة من هذا القبيل، وهذا مثال فقط.
ثم كون العمل مقصود به وجه الله وحده فقط، ثم إذا دخله شيء من الإرادات والمقاصد فإنه إما أن يفسد فيصبح حابطاً، وإما أن يكون ناقصاً على الأقل كما سيأتي.
وإن ذهب بعضه وبقي بعضه إذا كان شيئاً واحداً فالله لا يقبل إلا ما كان خالصاً له، وبعد هذا كله كيف يكون مخلوق مكلف خلقه الله ليتعبده كيف يكون شريكاً لله في الإلهية أو في العبادة؟ والأمور في هذا واضحة، ولكن الذين يحبون الشرك ويدعون إليه يغالطون.
الله جل وعلا لما أخبر عن الملائكة أنهم عباد مكرمون، وأنهم يفعلون ما يؤمرون ولا يعصون الله ما أمرهم قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء:٢٩]، ماذا يكون؟ {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:٢٩]، يصلى جهنم.
فالقرآن كله ودعوات الرسل كلها تصب في هذا الأصل العظيم الذي ضل عنه كثير من الناس، وصار يغالط ولا يعتمد إلا على رؤيا كقولهم: رأيت كذا وفلان رأى كذا أو على حكايات وقصص خرافية، كقولهم: إن فلاناً دعا الولي الفلاني أو تعلق به فحصل له كذا وحصل له كذا أو على أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على تحريفات كتحريفات اليهود الذين حرفوا النصوص تحريفات واضحة، ثم يستاء بعد ذلك أن يقال: إن بلوى الرسل وما يصابون به دليل على أنهم عباد، وأنهم ليس لهم من الربوبية مع الله شيء، وليس لهم من الإلهية مع الله شيء! احتج على القول لشدة الجهل والعناد، وشدة ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض الناس.
ومعلوم ما وقع فيه سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه، لقد أخرج من مكة ثم لم يستطع الدخول إلا بجوار رجل مشرك، وذهب إلى الطائف فرموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلوات الله وسلامه عليه، وردوا عليه رداً من أسوأ ما يكون لو كنت نبي أحد الناس ما قبلك ثم قال جاهل من ثلاثة من كبارهم وساداتهم كانوا مجتمعين فعرض عليهم أمر الله ودعاهم فقال أحدهم: ما وجد الله أحداً غيرك حتى أرسلك؟! بهذه السخرية والتهكم، والآخر قال: إنه يسرق كسوة الكعبة إن كنت رسولاً، وهذا استهزاء صريح، والآخر قال: لا أكلمك كلمة، لئن كنت صادقاً فلأنت أعظم من أن أرد عليك، ولئن كنت كاذباً فلأنت أحقر من أن أكلمك أهذا جواب الذي جاء بالبينات والهدى الواضحات؟! ثم بعد ذلك يغرى به السفهاء والصبيان، فيرمونه بالحجارة ويضربون عقبيه حتى يخرج منه الدم صلوات الله وسلامه عليه، ثم يخرج ولا يدري إلى أين يتجه صلوات الله وسلامه عليه، قد ذهب فكره، فلم يفق إلا وهو بقرن الثعالب الذي يسمى: السيل العالي من الطائف، وهناك رجع إلى فكره ودعا بالدعوة المعروفة المشهورة وقال فيها: (إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي)، فيقول: إلا مصيبة تصيبني بها لا أبالي ما دام أنه بأمرك ولطاعتك، فيحمد الله على ذلك.
ثم كذلك يوم بدر قالت له عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! هل مر بك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: يا عائشة! لقد لقيت من قومك) وذكر يوم الطائف.
ويوم أحد شج في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!)، ثم بعد ذلك أنزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:١٢٨]، فالأمر كله لله، فامتثل أمر سيدك، وامض حيث أمرت وكلفت، ثم بعد هذا يأتي قائل ويقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً فقل يا زلة القدم ولم يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم يقول: إذا غضب الله يوم القيامة فأنا أستجير بك من الله! -نسأل الله العافية- ثم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إذا كان من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة، ومن جملة علومه علم اللوح الذي كتب فيه كل شيء، والقلم الذي كتب كل شيء، فماذا بقي لله؟ ما أبقى لله شيئاً، نسأل الله العافية! ثم يصبح هذا الكلام نصاً، ويصبح يحفظ كما تحفظ الفاتحة؛ بل بعض الناس يقرؤه مساءً وصباحاً ويجعله ورداً كآية الكرسي والمعوذتين وما أشبه ذلك.
وليس هذا إلا انحرافاً واضحاً، وتعلقاً بالمخلوق وتركاً للخالق جل وعلا الذي بيده أزمة الأمور وكل شيء، ومن الذي يزين هذه الأمور؟ يزينها شياطين الجن والإنس، ويحسنونها ويجعلونها بقالب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة حقوقه.
يؤخذ خالص حق الله جل وعلا ويوضع في المخلوق، فإنه لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهاً لهم لقاتلهم أشد من قتاله لكفار قريش؛ لأنهم خالفوه صراحة، وجاءوا بما لم يأت به مشرك من المشركين، نسأل الله العافية.