[حال القوم الذي يأتون بعد القرون الثلاثة]
ثم وضح هذا وبينه بقوله: (ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وهذا سببه ضعف تقوى الله عندهم، وضعف الوازع الديني، فيصبح أحدهم لا يبالي بالشهادة ولا باليمين، فيشهد وإن كانت الشهادة غير متيقنة، وغير معلومة، وكذلك يحلف وإن كان آثماً حانثاً، فمعنى: (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) أنهم يبذلون الشهادة عند أدنى طلب، وكذلك اليمين فليس عندهم من الدين ما يمنعهم من بذله، بل الدين خف عندهم وضعف، بخلاف من يحفظ يمينه، ويوقر ربه، ويقدره حق قدره، ويخاف عقابه، ويرجو ثوابه، فإنه لا يكون بهذه المثابة.
وكذلك في الرواية الأخرى أنهم يخونون ولا يؤتمنون، وهي بمعنى كونهم تكثر فيهم الشهادة وإن كانت زوراً، واليمين وإن كان كذباً، فهذا من الخيانة، وعدم الائتمان، فإذا لم يؤتمن الإنسان على دينه فهو لغيره أخون، فيكون معنى هذه الرواية والتي قبلها واحد.
قال المصنف رحمه الله: [وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)].
قال الشارح رحمه الله: [وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملاً وأداء لقلة خوفه من الله، وعدم مبالاته بذلك، وهذا هو الغالب على الأكثر.
والله المستعان].
قوله: (تحملاً وأداءً) يعني: المسلم يجب عليه إذا شهد على الشيء أن يحمل الشهادة، وإذا طلبت منه أن يؤديها على الوجه الشرعي، وأن يقول الحق وإن كان على نفسه، وإن كان المقول عليه قريباً منه.
أما التحمل فهو واجب، إذا حمل الشهادة وجب أن يحملها، يعني: إذا قيل له: اشهد، فإنه يشهد بالشيء الذي شاهد ورأى، وأداء الشهادة واجب إذا طلبت منه، وإن كتمها فهو آثم قلبه كما قال الله جل وعلا، ومعنى ذلك: أنهم مرتكبون جرماً عظيماً؛ لأنه حق جحد، وباطل ظهر، واستولي على الحق بسبب كتمان الشهادة، فيكون الذي كتم الشهادة قد ارتكب إثماً عظيماً بالنسبة للذي أكل الباطل، وبالنسبة للذي أخذ حقه، فتكون أوزارهم عليه.
فالمقصود أن تحمل الشهادة وأداءها من الفروض على كل من شاهد شيئاً، فيجب عليه أن يؤديه إذا طلب منه كما شاهده وكما سمعه، ويجب عليه أن يقول الحق، وإن كان المقول عليه ذا قربى، وإن كان على نفسه.
أما إذا صار يؤثر قرابته وأصدقاءه فمعنى ذلك أنه جعل دينه عرضة لأمر الدنيا، وهذا الصنف لم يكن موجوداً في القرون المفضلة، ولكنه جاء بعدهم، وأصبح يزداد حتى أصبح الناس يشهدون بالأجرة، فإذا بذل له شيء من المال شهد كذباً وزوراً، وهذه الشهادة قد جاء أنها تعدل الشرك بالله جل وعلا، وقد حذرنا الله جل وعلا منها، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن فاعل ذلك قد استحق غضب الله جل وعلا.
قال الشارح رحمه الله: [فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف، فكن من الناس على حذر].
والمقصود بصدر الإسلام: القرن الرابع والخامس، هذا الذي يقصده، وأنه قد وقع فيهم أن شهادة أحدهم تسبق يمينه، ويمينه شهادته، فكيف فيمن بعدهم من القرون المتأخرة التي يكون الناس فيها أقل ديانة، وأقل وازعاً يزعهم ويمنعهم من ارتكاب المحرمات؟! لأنه كلما ابتعد عهد الناس عن عهد النبوة يخف إيمانهم بلا شك؛ لأن الذي يؤثر في الإيمان هو رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.