للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفاوت أهل التوحيد والرد على الخوارج والمعتزلة]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (لو أتيتني بقراب الأرض) بضم القاف، وقيل: بكسرها والضم أشهر، وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها.

وقوله: (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً) شرط كفيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].

قال ابن رجب رحمه الله: إن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة.

إلى أن قال: فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيماً وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها وإن كانت مثل زبد البحر.

انتهى ملخصاً.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الحديث: ويعطى لأهل التوحيد الذين لم يشوبوه بالشرك ما لا يعطى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي.

انتهى.

وفي هذا الحديث كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته، والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين وهي الفسوق، ويقولون: ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار والصواب قول أهل السنة والجماعة: إنه لا يسلب عنه اسم الإيمان ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة].

الذنوب كلها أخبرنا ربنا جل وعلا أنه إذا شاء أن يغفرها غفرها، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:٥٣]، فما ترك شيئاً، حتى الشرك دخل في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، ولهذا يقول العلماء: هذه الآية في التائب من الذنب، فمهما كان ذنبه فإن الله يغفره، ولكن في الآية التي ذكرناها سابقاً في سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] هذا لمن مات غير تائب، سواءٌ أكان مشركاً أم غير مشرك، فإذا مات على ذنوب ولم يتب منها فإن كانت شركاً فإن الله لا يغفرها، وإن كانت غير شرك فهي معلقة بمشيئة الله جل وعلا، إذا شاء أن يغفرها غفرها.

أما ما ذكر أن الحديث فيه الرد على الخوارج فالخوارج سموا (خوارج) لأنهم خرجوا عن الحق إلى الباطل، وخرجوا على أهل الحق لأنهم أهل باطل، وهم في الواقع أناس جهلة أرادوا أن ينزلوا كتاب الله على مفاهيمهم القاصرة، فاقترحوا أن الناس قسمين فقط: بر تقي، أو فاجر شقي، ولا ثالث لهما، فصاروا يحكمون هذا الرأي الذي رأوه، فكل من وقع في ذنب، جعلوه كافراً، ثم بحثوا عن هذا المنهاج في كتاب الله فوجدوا بعض الآيات التي تعلقوا بها وهم لم يفهموها، مثل قول الله جل وعلا: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:١٩]، وكقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:٩٣]، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠]، وما أشبه ذلك من الآيات التي جاء فيها توعد العصاة بأنهم في النار، وأنهم مغضوب عليهم، أو أنهم ملعونون، فجعلوا كل من فعل كبيرة من الكبائر يكون هذا حكمه.

ثم صاروا يقتلون من فعل هذا؛ لأنهم حكموا بأنه كافر، فلهذا صاروا يقتلون المسلمين ويدعون الكافرين، فلما ظهروا صاروا يرفعون أسلحتهم في وجوه الناس، وظهر الكلام في صاحب المعصية والكبيرة، وكان من الناس من يسأل عن حكمه هل هو مؤمن أو كافر، وممن سئل عنها الإمام الحسن البصري، وكان عنده رجل يقال له: واصل بن عطاء الغزال من تلامذته، فبادر وأجاب السائل بقوله: لا كافر ولا مسلم.

ثم اعتزل حلقة الحسن، وجعل يقرر هذا المبدأ، فصار هذا هو مبدأ الاعتزال؛ لأن الحسن قال له: اعتزلنا.

فسمي معتزلاً، ثم سمي أتباعه معتزلة، ثم صاروا فرقة كبيرة من الفرق التي خالفت الحق، فصار من قولهم أن الذي يرتكب ذنباً من الذنوب كالكبيرة يخرج من الإيمان ولكنه لا يدخل في الكفر، فيبقى بمنزلة بين الإيمان والكفر، وجعلوا هذا من أصول دينهم؛ فإنهم بنوا دينهم على أصول خمسة بدل الأصول التي ذكرت في حديث عبد الله بن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله) إلى آخره، وهم بنوه على خمس جاؤوا بها من عندهم هذا أحدها، وهو المنزلة بين المنزلتين.

فمرتكب الكبيرة حكمه في الدنيا عندهم أنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، أما حكمه في الآخرة عندهم فإنه في النار، فاتفقوا مع الخوارج في حكم الآخرة، واختلفوا معهم في حكم الدنيا، والواقع أنهم اختلفوا في التسمية واتفقوا في الحكم، والتسمية لا قيمة لها إلا أنهم لا يقاتلون ويقتلون من كان هذا وصفه، بخلاف الخوارج.

وأهل الحق في هذه المسألة على أن مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كامل الإيمان، ولا يقال: مؤمن دون قيد، فلا بد أن يقيد، فيقال: مؤمن فاسق.

أو: مؤمن عاصٍ، أو: مؤمن ناقص الإيمان حسبما جاء في النصوص؛ لأنا إذا قلنا مؤمن أو هو المؤمن فإن هذا يدخل الإيمان فيه كله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن)، فهنا قيد هذه الحالة بأنه ليس مؤمناً، وليس معنى ذلك أنه لو سرق ثم مات يكون كافراً، أو زنى ثم مات يكون كافراً، لا.

ليس هذا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما مراده صلوات الله وسلامه عليه أنه في هذه الحالة ليس عنده إيمان يمنعه من اقتراف هذه المعاصي، وليس عنده الإيمان الذي يمنع صاحبه من الوقوع في المعصية، وإلا فأصل الإيمان لا يخرج منه ولا يفارقه؛ إذ لو كان مقصوده أنه سلب الإيمان نهائياً لأصبح كافراً، ووجب عليه أن يرجع إلى الإسلام مرة أخرى، ويكون ذلك موافقاً لمنهج أهل الباطل الخوارج والمعتزلة وغيرهم، فلا بد من تقييده بأنه ناقص الإيمان، أو أنه عاصٍ، أو أنه فاسق أو ما أشبه ذلك، حتى لا يفهم أنه عنده الإيمان كله وأنه كامل الإيمان، ومعلوم أن الناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً عظيماً، وعلى هذا التفاوت تفاوتت منازلهم في الجنة، فمنهم من يكون بجوار الرسل، ومنهم من يكون في أدنى الجنة، والتفاوت في منازل الجنة أعظم من التفاوت بين السماء والأرض، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين درجة وأخرى مثل ما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، فهذه فقط للمجاهدين، والدرجة المقصود بها هنا المنزلة، يعني: منزلة ينزلها فإذا كان هذا في المجاهدين فكيف بغيرهم؟ فالمقصود أنه يجب أن يجتنب قول أهل البدع الذين يكفرون بالمعاصي، أو يخرجون المسلمين بكونهم وقعوا في معاصٍ من الإسلام ويجعلونهم كفرة، أو يستحلون دماءهم وأموالهم، وهذا من أكبر الباطل، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، وقال: (يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)، وأمر بقتلهم لأنهم يقتلون الناس، فكل من كانت هذه صفته يجب أن يقاتل، ثم إنه جاء في حديث أن آخرهم يكون مع الدجال الذي هو من أعظم الفتن، الذي يخرج فتنة للناس فيزعم أنه مصلح وأنه يريد أن يصلح في الأرض ويقضي على الظلم، ثم بعد ذلك تتدرج به الأمور ويقول: إنه نبي.

ثم تتدرج به الأمور ويرتقي في باطله حتى يقول: أنا ربكم.

ويكون معه من الأمور التي يلبس بها على كثير من الناس شيء كثير.

فالمقصود أنه من الباطل الواضح كونهم يكفرون الناس ويدخلونهم النار أو يستحلون دماءهم.